نختم اليوم استعراض الوثائق البريطانية التى تم الإفراج عنها أخيرا، ونشرها موقع البى بى سى، فى الأول من أبريل الجارى، وتكشف بوضوح أن بريطانيا خططت لعدم تسليم قناة السويس للمصريين فى نهاية عقد امتياز الشركة فى عام 1968، وأن هذه الخطط والنوايا كانت سابقة لقيام ثورة 23 يوليو 1952، كما شرحنا ذلك فى مقال الأمس تحت عنوان «هل تسرع عبدالناصر فى تأميم قناة السويس؟».
بريطانيا طرحت خمسة بدائل لاستمرار السيطرة على القناة منها إنشاء تحالف عسكرى لحماية القناة، وتدخل حلف شمال الأطلنطى «الناتو» لتوفير الحماية للقناة، وفصل منطقة القناة عن مصر، ووضع القناة تحت سيطرة الأمم المتحدة، وتدويل القناة فى أى تسوية مصرية بريطانية، لكن هذه البدائل لم تجد تأييدا قويا من حلفاء بريطانيا.
وبناء على مقترح فرنسى تم الاتفاق على عقد لقاء للدول الأوروبية المعنية، لكن أمريكا لم تكن متحمسة ليس حبا فى المصريين، ولكن لأنها كانت تريد وراثة كل التركة الإمبراطورية البريطانية.
وبعد قيام ثورة يوليو ظلت بريطانيا تواصل اتصالاتها لتشكيل الكونسرنيوم باعتباره الضمانة الوحيدة لفترة ما بعد انتهاء معاهدة ١٨٨٨.
ثم ناقشت وزارات الخارجية والنقل والمالية البريطانية مشروعا متكاملا طرحه السير فرانسيس فيرنر وايلى ممثل بريطانيا فى شركة القناة استعدادا لفترة ما بعد انتهاء اتفاق امتياز شركة القناة فى موعده القانونى، وعرض وايلى خطته بحيث تتضمن الشروط التالية.
إنشاء هيئة تضم الحكومة المصرية والقوى البحرية الدولية ذات الاهتمام، تتولى إدارة القناة وتعين الحكومة المصرية رئيس الهيئة وغالبية أعضائها، لكن المقترح تضمن مجموعة من الشروط المجحفة ومنها أن يكون نائب الرئيس فرنسيا ويعينه الرئيس الفرنسى، ولحكومات الدول الأوروبية ذات الاهتمام الأساسى الحق فى تعيين أعضاء ممثلين لها، كما يجب أن تدعى حكومات أستراليا والهند وباكستان لتعيين ممثلين لها فى الهيئة. وتتشاور الحكومة المصرية مع الدول الأخرى فيما يتعلق بمراجعة رسوم عبور القناة كل خمس سنوات، ولا يتم تغيير الرسوم إلا بتصويت أعضاء الهيئة بالإجماع، وتظل الرسوم عند أقل مستوى ممكن.
ومن النقاط الحاسمة فى هذا الاقتراح أن يتمتع كل الأعضاء غير المصريين فى الهيئة بالحصانات والامتيازات الدبلوماسية الطبيعية بما فيها الحق فى التواصل مع حكوماتهم دون رقابة، والحق فى استخدام الشيفرات فى هذا التواصل.
وطبقا للوثائق البريطانية المفرج عنها حديثا فإن الخطة تشمل أيضا ما وصفه وايلى بالضمانات الضرورية ومنها، أن تحصل الحكومة المصرية على ٢٥٪ فقط على الأكثر من عوائد القناة، كما لا تنفذ أعمال التطوير إلا بعد موافقة بقية خبراء الهيئة الاستشارية، وتوفير تكلفة هذه الأعمال عن طريق قروض تدبر برسوم إضافية، ويكون نصف الربانبة والمرشدين على الأقل الذين توظفهم الهيئة غير مصريين ومن الدول ذات الاهتمام الأساسى، كما يعين رؤساء الإدارات الرئيسية فى الشركة بموافقة كل أعضاء الهيئة بالإجماع، على أن يشغل ٥٠٪ من هذه المناصب دائما مواطنون من الدول ذات الاهتمام الأساسى.
ومن الواضح أن الشروط السابقة تعجيزية، ولا تعنى إلا أن القناة ستصبح مصرية شكلا وبريطانية دولية مضمونا.
بعد سبعة شهور من دراسة هذا المقترح صدم عبدالناصر الغرب حينما قال فى ١٧ نوفمبر ١٩٥٤ أن مصر سوف تستعيد القناة حينما ينتهى اتفاق الامتياز عام ١٩٦٨، وقال يومها جملته الشهيرة وهى «فى الماضى كانت مصر تنتمى إلى القناة، ومن الآن فصاعدا سوف تنتمى القناة لمصر».
وفى فبراير ١٩٥٥ سعى وايلى إلى إقناع المصريين بضرورة إضفاء الصفة الدولية على القناة وحرية الملاحة بها وعدم زيادة رسوم المرور، وعدم الاصطدام برأى شركات الشحن الدولى، حينما تعود للملكية المصرية عام ١٩٦٨.
فى ١٨ يونيو ١٩٥٦ خرج آخر جندى بريطانى من القاعدة البريطانية فى قناة السويس تطبيقا لاتفاقية الجلاء الموقعة فى ١٩ أكتوبر ١٩٥٤، ورغم أنها نصت على أن القناة جزء لا يتجزأ من مصر، فإن لندن واصلت الحشد لدعم المشاركة الدولية فى إدارة القناة وعدم تركها للمصريين.
لكن جمال عبدالناصر وبعد حوالى شهر أعلن تأميم قناة السويس فى ٢٦ يوليو ١٩٥٦.
خلاصة هذه المذكرات أن عبدالناصر لم يكن متهورا أو متسرعا فى تأميم القناة، بل الأصح أنه كان قارئا جيدا للأحداث وقتها وللنوايا البريطانية وباعتراف الوثائق البريطانية نفسها.