بقلم - عماد الدين حسين
كيف لدولة صغيرة مثل ليتوانيا لا تتجاوز مساحتها ألف كيلو متر مربع، ولا يزيد عدد سكانها عن ٢٫٨ مليون نسمة وتكاد تلامس روسيا، أن تتمكن من استضافة القمة السنوية لحلف «الناتو» يومى ١١ و١٢ يوليو الحالى؟!
بالطبع فإن ليتوانيا التى كانت جزءا من الاتحاد السوفييتى السابق، وأول من استقلت عنه فى ١١ مارس ١٩٩٠، صارت عضوا فى حلف الناتو عام ٢٠٠٤. اليوم لا أتحدث عن الناتو وقمته، بل عن هذا البلد الذى تمكن من وضع نفسه على خريطة العالم، وصار مقصدا للسائحين والمستثمرين.
مطار العاصمة فيلنيوس صغير جدا والحركة فيه ليست كبيرة، لكن ما يميزه هو سرعة وسهولة الإجراءات، والود فى التعامل مع الغرباء والأجانب، وبعد ٤ أيام من الإقامة والتجول فى العاصمة فيلنيوس وشوارعها ومقاهيها ومطاعمها ومقر انعقاد قمة الناتو، فقد تأكد لى أن تلك هى سمة عامة للبلد بأكمله تقريبا إلا ما ندر.
فى مرات كثيرة كنت أنا والصديق الدكتور محمود مسلم رئيس مجلس إدارة جريدة الوطن ورئيس لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشيوخ نسأل بعض المواطنين الليتوانيين عن مكان معين، فكانت الإجابات فورية ومصحوبة بابتسامات، بل فى إحدى المرات أصرت الشرطية الشابة على أن تسير معنا لمسافة تزيد عن ٥٠٠ متر حتى ترشدنا إلى المكان.
وحينما تدخل إحدى الصيدليات للسؤال عن دواء معين، فإن الموظفة تصر على شرح مواصفات الدواء بكل التفاصيل الممكنة، وتقول لك مثلا أن هناك دواءً سعره أقل لكن فاعليته أفضل.
النظام سمة عامة فى الأماكن التى زرتها. وحينما تكون الإشارة حمراء للمشاة، فجميعهم يلتزمون بها حتى لو لم تكن هناك سيارات، ولا يكسر الإشارة إلا القادمون من بلدان لا تقدر النظام أو تحترم إشارات المرور!
بعد نهاية القمة رسميا مساء الأربعاء قبل الماضى كنت أسير أنا ومحمود مسلم، وتصادف مرور موكب الرئيس الأمريكى جو بايدن المؤلف من أكثر من ثلاثين سيارة، إضافة إلى مواكب لرؤساء آخرين من بين ٣١ رئيسا لدول الناتو ومجموعة السبع الكبار.
خلال القمة كانت العديد من الشوارع مغلقة للظروف الأمنية، وفى هذا اليوم طلب منا موظفو المرور الانتظار حتى يمر الموكب. حاولنا مرارا إقناعهم بأننا سنعبر الشارع فقط حيث يسير الناس فرفضوا وقالوا: «هذه هى التعليمات». ما لفت نظرى هو أن عشرات المواطنين الليتوانيين انتظروا فى هدوء ولم يعترضوا، بعضهم كان يتسامر مع رفيقه أو رفيقته، وبعضهم كان يقرأ. وبالمناسبة ظاهرة قراءة الكتب لاحظتها فى العديد من المقاهى والمطاعهم والمواصلات العامة، بل ومع بعض الموظفات فى المراكز التجارية المختلفة، وهو أمر لم نعد نراه كثيرا حتى فى بعض العواصم الكبرى.
النظام يصل إلى درجة وجود لافتات صغيرة على موائد المطاعم والحدائق تقول إنه ممنوع إلقاء بعض المأكولات للقطط، أو منع تبول الكلاب الخاصة فى الشوارع، وقد رأيت فتاة تسير ومعها كلبها وفى يدها أكياس مخصصة لهذا الغرض. اللغة الرسمية هى الليتوانية لكن كل كبار السن يجيدون الروسية بحكم أنها كانت اللغة الرسمية حتى عام ١٩٩٠، وغالبية الشباب تتحدث الإنجليزية، لكن الملاحظة أيضا هى أن عددا كبيرا من العاملين والعاملات فى بعض الوظائف مثل النظافة والمحلات يتحدثون الروسية فقط لأنهم جاءوا من جمهوريات روسية صغيرة. والمفارقة أنهم موجودون هناك رغم أن غالبية سكان ليتوانيا يتعاطفون تماما مع أوكرانيا، وهو الأمر الذى يمكن للزائر العابر أن يلاحظه فى كل مكان من أول الأعلام الأوكرانية على المبانى والمؤسسات والمواصلات العامة نهاية برؤيتى لكثيرين يسيرون فى الشوارع ملتحفين بالعلم الأوكرانى. وفى اليوم الأخير رأيت البعض يجمع تبرعات إنسانية لأوكرانيا فى منطقة فيلنيوس القديمة، وكذلك منطقة المطاعم المشهورة هناك قرب الكنيسة الأثرية.
نسيت أن أقول لكم إننا طلبنا تاكسى من الفندق لكى يقلنا إلى المطار فوصل بعد الاتصال بدقيقتين، وانتظر لدقيقتين وحينما لم نخرج فورا انصرف، ثم طلبنا تاكسى آخر ووصل فى موعده تماما، وحينما حاولنا أن نعطيه بقشيشا رفض فى بادئ الأمر ثم قبل أخيرا.
الشىء المزعج الوحيد أن الطائرة التى كان يفترض أن تتحرك من مطار فيلنيوس فى الثامنة والنصف مساء تأخرت ساعتين، وبالتالى لم نلحق الطائرة من مطار اسطنبول واضطررنا للبقاء فى مطار اسطنبول لأكثر من ٦ ساعات.
بعد أربعة أيام فى ليتوانيا أظن أن هذا البلد سيحقق تقدما أكبر فى الفترة المقبلة.