بقلم - عماد الدين حسين
أعود إلى السؤال الذى طرحته فى آخر مقال الأمس: كيف يمكن تفسير السلوك الإثيوبى الرسمى بالموافقة على الشروع فى مفاوضات ثلاثية للتوصل إلى اتفاق لملء وتشغيل سد النهضة خلال ٤ شهور، والتعهد بعدم إلحاق ضرر بمصر والسودان خلال فترة الملء الحالية.
مرة أخرى، اللغة الجديدة والمختلفة التى استخدمها رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد خلال زيارته للقاهرة يوم الخميس الماضى واجتماعه مع الرئيس عبدالفتاح السيسى على هامش «قمة دول جوار السودان»، ثم «البيان البلاغى» الذى أصدره من أديس أبابا يوم السبت الماضى، أمر ينبغى أن نرحب به، ونرجو أن يستمر ويتحول إلى أفعال. لكن من المهم أيضا أن نسأل عن الأسباب التى يمكن أن تكون قد دفعت إثيوبيا إلى هذا التحول ــ حتى لو كان على مستوى الكلام فقط ــ خصوصا أن كثيرين كانوا يتوقعون أن تستمر إثيوبيا فى عنادها بالنظر إلى الظروف التى تمر بها المنطقة وأهمها الصراع الدموى فى السودان الشقيق والذى جعله يخرج عمليا من التأثير فى هذا الملف.
هناك مجموعة من الأسباب يمكن أن يفسر أحدها أو بعضها أو كلها التغير الذى حدث فى السلوك الإثيوبى فى الأيام الأخيرة.
التفسير الأول: أن تكون إثيوبيا قررت التوقف عن الأسلوب الخشن ولغة التحدى والقرارات الانفرادية، والعودة مرة أخرى إلى اللغة اللينة المهذبة الودودة التى تظهر حسن نواياها شكلا، لكن من دون أن تقدم شيئا ذات بال لمصر والسودان، وبالتالى تشترى المزيد من الوقت حتى تنتهى المرحلة الرابعة من عملية الملء للسد، وهى المرحلة الأساسية بالنظر إلى الصعوبات التى واجهتها فى المراحل الثلاث الأولى بفعل صعوبات تعلية جسم السد.
التفسير الثانى: أن تكون إثيوبيا قد حققت هدفها الرئيسى وهو قرب اكتمال إنشاء السد، وبالتالى فلا داعى للاستمرار فى الصراع وبدء المفاوضات من مركز قوة للتوصل إلى اتفاق لن يؤثر على عملية الإنشاء الأساسية التى تكاد تكون قد اكتملت، وبالتالى تستفيد من التهدئة الدبلوماسية مع مصر، وتبدو أمام أفريقيا والعالم بمظهر الدولة المتعاونة.
التفسير الثالث: أن يكون العرض الإثيوبى بالتعهد بعدم «إحداث ضرر ذى شأن» فى عملية الملء الرابعة الجارية حاليا، مرده إلى أن الطبيعة كانت متسامحة جدا مع إثيوبيا فى كل عمليات الملء خلال السنوات الماضية، وجاء إيراد النهر فوق المتوسط بحيث إن حصص مصر والسودان لم تتأثر كثيرا فى السنوات الماضية، وهو ربما ما قد يتكرر خلال موسم الأمطار الحالى الذى يستمر حتى سبتمبر، وتقول مؤشراته الأولية إنه «إيراد جيد». وبالتالى ستبدو إثيوبيا فى مظهر الطرف الذى لم يتسبب فى أى ضرر لمصر والسودان.
التفسير الرابع: أن تكون إثيوبيا قد اقتنعت بأن دخولها فى عملية تحدٍّ ضد مصر فى أزمة سد النهضة قد يحقق لها بعض الشعبية الداخلية، لكنه سيكون مكلفا على المدى البعيد.
التفسير الخامس: وهو مرتبط بالتفسير الرابع وهو أن تكون التحركات المصرية العلنية والسرية قد أثمرت فى النهاية فى إقناع إثيوبيا بأن القاهرة لن تتخلى مهما طال الوقت عن حقوقها فى مياه النيل التى تشكل المصدر الوحيد لمواردها المائية، علما بأنها دخلت منذ سنوات مرحلة الشح المائى لأن متوسط حصة المصرى من المياه صارت أقل من ٥٠٠ متر مكعب سنويا.
التفسير السادس: أن تكون بعض القوى الإقليمية والدولية التى دعمت إثيوبيا قد تحركت وأقنعت إثيوبيا بأنه ليس من مصلحتها أو مصلحة الإقليم الاستمرار فى عملية التحدى للحقوق والمصالح المصرية فى مياه النيل ولابد من الوصول لحل مُرْضٍ لكل الأطراف.
تلك هى أبرز التفسيرات كما أراها والتفسير السابع والأخير: أنه وفى كل الأحوال فإن الفيصل الأساسى فى الموقف الإثيوبى هو أن يتم ترجمته إلى أفعال خلال الشهور الأربعة المقبلة، علما بأن إثيوبيا تعهدت لمصر عشرات المرات بأشياء كثيرة منها قسم آبى أحمد على المصحف بعدم الإضرار بالحقوق المصرية.
الفيصل العملى ليس اللغة الإثيوبية الطيبة رغم أهميتها، وليس الدخول فى مفاوضات جديدة، رغم أهميتها أيضا، بل المهم أن يتم ترجمة ذلك كله إلى اتفاق قانونى وملزم لإدارة وتشغيل السد خصوصا فى فترات الجفاف والجفاف الممتد، وقبل ذلك وبعده ألا تنشئ إثيوبيا سدودا جديدة بطريقة أحادية، ووقتها سوف نتفاجأ بأن إثيوبيا وقعت معنا اتفاقا جيدا بشأن سد النهضة، لكنها بنت سدودا جديدة تحولها إلى محابس جديدة تبتز بها مصر والسودان فى المستقبل.