بكر عويضة
لم يكن ممكناً أن أتابع أحداث تونس الأخيرة بلا استحضار وقائع علاقة ذات باع طويل، جمعت البلاد التونسية كلها، من أقصاها شمالاً، إلى أطرافها جنوباً، مع فلسطين، القضية والشعب. في تحليل ما جرى أخيراً، ليس عندي ما أضيف إلى ما سبقتني إليه أقلام أهل الخبرة في التحليل السياسي من كاتبات وكتاب «الشرق الأوسط» الأفاضل. أما في شأن العلاقات التونسية - الفلسطينية، فربما يفيد التذكير كيف فتحت تونس العاصمة أبوابها أمام منظمة التحرير الفلسطينية عندما تقرر أن تواصل «ثورة بساط الريح» التحليق في فضاء أقدارها، فترحل من ضفاف البحر المتوسط اللبنانية، إلى الساحل التونسي، وقيل يومها للآتين تحت جناحيها؛ أهلاً بكم ومرحباً، بلا قيد مُسبق، ولا شرط يقيد حركتكم، بعدما تابعهم التونسيون بفخر، وهم يصدون، إلى جانب رفاق لهم لبنانيين، دبابات شارون عن قلب بيروت، وسُجل يومذاك، تاريخياً، أنها أول عاصمة بين عواصم العرب تغزوها إسرائيل في وضح النهار، بلا خجل، وبلا تخوف من أي رد فعل عربي، أو إسلامي، أو دولي، حتى من قِبل الجار السوري.
بيد أن ما بين فلسطين القضية والشعب، ثم منظمة التحرير، وبين تونس، الدولة والناس، من علاقة تستحق عن جدارة وصف الحميمية، يسبق المجيء للإقامة في العاصمة التونسية عقوداً عدة. يمكن القول إن العلاقة اتخذت تلك السمة اعتباراً من خطاب للرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، ألقاه في أريحا يوم الثالث من مارس (آذار) عام 1965. الأرجح أن يرفض هكذا تقييم كل الذين، مجازاً، يمكن إطلاق عليهم وصف «الروافض العرب»، ليس من منطلق استخفاف موقفهم، كلا، فذلك حقهم، وإنما لأنهم متشبثون بالتخندق، حتى آخر نقطة دم فلسطينية، تحت جناح «رفض أي سلام مع إسرائيل». يومذاك فوجئ العرب عموماً، والفلسطينيون خصوصاً، بالحبيب بورقيبة، محقق استقلال تونس، وباني أسس دولتها المعاصرة، ينصح سامعيه قائلاً: «ما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة، تقربنا من الهدف، أما هنا فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون: ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذن لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها. ولو رفضنا في تونس، عام 1954، الحكم الذاتي، باعتباره حلاً منقوصاً، لبقيت البلاد التونسية، إلى يومنا هذا، تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة، تحكمها باريس. هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة، التي سيتذكرها، دائماً، هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة. وهذه هي نصيحتي، التي أقدمها ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية. وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة، نردد: (الوطن السليب... الوطن السليب)، من دون جدوى».
تلك صيحة أطلقها المجاهد الأكبر، منطلقاً من واقع عقيدته الجهادية «خُذ وطالب»، التي سوف يثبت تسلسل الوقائع، لاحقاً، وعلى الصعيد الفلسطيني، تحديداً، مدى صدقيتها. كما هو متوقع، آنذاك واليوم أيضاً، لم يجد ذلك الكلام المعبر عن الواقع، العقول الراغبة في السمع - ناهيك من الإنصات - لأن منهج الزعيق القائم على تهييج المشاعر، رغم التراجع البين في تأثيره بين قطاعات معتبرة، كان ولم يزل يلقى القبول بين أكثر بسطاء الناس. ومع أن عبارات إلحاق الأذى بالرئيس بورقيبة، التي تضمنتها أدبيات فلسطينية تختلف توجهاتها، بقيت تلاحق الرجل سنوات عدة، حتى بعد هزيمة الهزائم في حرب 1967، فقد بقي باب تونس مفتوحاً أمام منظمة التحرير الفلسطينية بلا أي إلزام لقيادات المنظمة تجاه السياسات التونسية. أعرف من واقع متابعتي، كما يعرف غيري، أن حكم بلعاوي (أبو مروان)، ممثل المنظمة في تونس زمن الحبيب بورقيبة، ومن بعده أيضاً، كان يُعامل معاملة سفراء مختلف الدول، وأحياناً بأفضلية عليهم، كان يقُال إن باب قصر قرطاج مفتوح أمام السيد بلعاوي أنى شاء. مبالغة بعض الشيء؟ ربما، لكن الأوضح من أي غموض هو أن تونس أعطت فلسطين، قدر ما استطاعت، بلا مزايدات، وبلا تمنين. ماذا بعدما استقر المقام التونسي للشقيق الفلسطيني القادم من جراح مأساة لبنان؟ ذلك أمر فيه المُفرح، نعم، بلا جدال، وفيه المؤلم، أيضاً، لكنه يحتاج إلى مقال آخر.