مع الضوء الأخير من نهار الأحد الماضي، أي اليوم الأول لزيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الصين، طلعت علينا وزارة الخارجية الأميركية بتصريحات ذات طبيعة «إكليشيهية» من عينة القول إن الوزير الأميركي أجرى محادثات «بنّاءة» مع نظيره الصيني في بكين، وأن الصين تتطلع إلى إقامة علاقات مستقرة مع الولايات المتحدة، وما شابه من عبارات تقليدية، عادةً ما يتم تطويعها في أزمنة الخلافات العميقة، بهدف التعمية على واقع الحال المتردي، من واشنطن إلى بكين والعكس.
هل كان من المتوقع لزيارة بلينكن الأولى من نوعها لمسؤول أميركي كبير منذ عام 2018 أن تحقق اختراقات هائلة، سواء على صعيد العلاقات السياسية أم الملفات الاقتصادية المحتقنة بين الجانبين؟
الحقيقة التي أقر بها بلينكن قبل مغادرته سماوات واشنطن، هي أنها زيارة بهدف «تجنب الحسابات الخاطئة مع بكين، وبهدف فتح خطوط اتصال مباشرة، بحيث يتمكن البلدان من إدارة العلاقات بشكل مسؤول».
تبدو العبارة المتقدمة غامضة بعض الشيء للذين ليست لهم دالّة على بواطن العلاقات الأمريكية - الصينية، والمهدَّدة دوماً بالوقوع في فخ ثيوسيديديس، أي تكرار بالضرورة للمواجهة العسكرية المسلحة بين القوة القطبية القائمة ونظيرتها القادمة، كما جرت المقادير بين إسبرطة وأثينا قبل الميلاد.
بالعودة إلى الذاكرة نهار السادس من يناير من عام 2021، أي يوم «موقعة الكونغرس»، وجدت الصين نفسها في مواجهة حالة من حالات الذعر، خوفاً من أي قلاقل تحدث في الداخل الأمريكي، يمكنها أن تتسبب في مواجهة نووية مع أمريكا، وقد علم الجميع لاحقاً كيف خاطب الجنرال الأمريكي مارك ميلي، نظيره الصيني لي زوتشينغ يوم الثامن من يناير نفسه لتهدئة روعه بعد أن توقعت الصين هجوماً أمريكياً وشيكاً، وربما كانت بكين قد هيَّأت نفسها لردّات فعل تنطلق من استخدام مكثَّف للقوة التقليدية، وصولاً إلى تحريك رؤوسها النووية، والتي إن كانت لا تقارَن عددياً بما لدى واشنطن، إلا إنها تكفي لردع الأمريكيين حال ساءت الأحوال واستولى الراديكاليون الأمريكيون على الحكم، بعد رفضهم الإقرار بهزيمة ترمب.
هل يعني ذلك أن أهداف زيارة بلينكن كانت مؤطَّرة بمحددات بعينها، بعيدة كل البعد عن الأحلام المخملية، حيث الحَمَل والذئب يرعيان معاً في أزمنة العولمة؟
ذلك كذلك قولاً وفعلاً، حيث بان جلياً للطرفين أن خطاب الغضب لا يفيد، وأن محادثات أكثر رصانة خلف الأبواب المغلقة، يمكنها أن تؤجل القدر المقدور في الزمن المنظور إلى أبعد نقطة زمنية ممكنة، وقد تجود السماء على المتصارعين بفهم عميق للتعايش عوضاً عن الغرق معاً.
ما يتسنم أهداف زيارة بلينكن هي محاولة فض «العروة الوثقى» بين موسكو وبكين، حتى الخلاص من حرب القيصر بوتين التي طالت من غير حسم.
لم يتوقع أحدهم أن يضحى بلينكن، كيسنجر جديداً، ليعيد سيرة دبلوماسية «البينغ بونغ»، أوائل سبعينات القرن الماضي، لكنّ جنرالات البنتاغون ورجالات الخارجية الأمريكية يحدوهم أمر واحد، من الخطورة بمكان، ألا وهو قطع الطريق على الصدام في الزحام، أو الاحتكاك في الظلام، بين قطع البحرية الأميركية والصينية في البحر، كما حدث مؤخراً في مضيق تايوان، أو في الجو كما يتكرر مؤخراً بين المقاتلات الأمريكية والصينية، فوق بحر الصين الجنوبي.
للأميركيين مصلحة استراتيجية عليا في عدم فتح جبهة عسكرية في شرق آسيا مع قوة بحجم الصين، لا سيما في هذا التوقيت الحرج والمخيف، إذ تكفي صواريخ موسكو الفرط صوتية، وقنابلها النووية التكتيكية المنقولة حديثاً إلى بيلاروسيا، وغواصات الكرملين التي تجوب بحر الشمال وما حوله، مهددةً بالويل والثبور وعظائم الأمور.
مضى بلينكن إلى بكين في زيارة تأخرت من فبراير (شباط) الماضي، إثر الاتهامات الأمريكية للصين بأنها وراء المنطاد الغامض الذي حلَّق فوق الأراضي الأمريكية، وكل الأمل أمريكياً أن يفي له الحظ بعدما أخلف لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، ذاك الذي رفض وزير الدفاع الصيني، لي شانغفون، طلب لقائه معه.
نُصب عينَي بلينكن في محادثات الغرف المغلقة، استعادة خط الاتصال العسكري المخصص لتهدئة أي حوادث عارضة أو طارئة، يمكنها أن تفغر فاه الفخ الإغريقي القديم، ليتكرر من جديد مهلكاً الزرع والضرع في ثلاثة أيام، وليس ثلاثين عاماً كما جرت النوازل في زمن الحروب البيلوبونيسية.
للجانب الأمريكي مصلحة كبرى في زيارة بلينكن، تتمثل في تهدئة التوترات السياسية لأقصى درجة، خدمةً للتبادل التجاري والاقتصادي مع بكين.
ليس سراً أن لواشنطن وبكين مصالح متبادلة، فأمريكا هي السوق الأنفع والأرفع للسلع الصينية، والصين تجد في سندات الخزانة الأمريكية الموقع والموضع المالي الأكثر أمناً وموثوقية وسط أحوال العالم المتردية.
يسعى الديمقراطيون بقيادة بايدن إلى تحسين أوضاعهم الانتخابية في الفترة الممتدة من الآن حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، وذلك عبر تدفقات مليارية صينية جديدة تُنعش البنوك الأمريكية.
الأمر عينه ينسحب على مصالح الصين العليا، لا سيما في ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادية، والخوف من التدهور الديموغرافي لسكان الصين، وتعثر الشراكات مع الأوروبيين، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى استراتيجية الأمن القومي الألماني التي صدرت مؤخراً، وكيف تنظر إلى الصين كقوة تدفع في طريق عدم الاستقرار حول العالم.
هنا فإن بكين تأمل في أن تتجنب المزيد من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وبنوع خاص على صناعات التكنولوجيا الدقيقة، مثل الرقائق والشرائح الإلكترونية الضرورية لكل صناعات القرن الحادي والعشرين.
رحلة بلينكن، زيارة براغماتية من بابها إلى محرابها، واستقبال الصينيين له أمرٌ تغلّفه مصالحهم المقابلة، ما يعني أنها «استراحة محاربين» لالتقاط الأنفاس، قبل السقوط معاً في الفخ القادم لا محالة. وعلى غير المصدَّق أن يراجَع الاتفاق الجديد بين واشنطن و«بابواغينيا الجديدة»، جنوب غربي المحيط الهادئ، الذي سيسمح بتطويق الصين، وتوقيع الصين اتفاقاً مشابهاً مع جزر سليمان المجاورة استعداداً ليوم القارعة.