حذر جيمس ماديسون، رابع رئيس للولايات المتحدة بالفترة من 1809 - 1817، والذي عرف بأبي الدستور الأميركي، في الورقة الفيدرالية رقم 10 التي كتبها سنة 1787 لإقناع مواطني نيويورك بالتصديق على الدستور الفيدرالي الجديد للبلاد، حذر قراءه من شرور الطوائف التي «تتعارض مع حقوق المواطنين الآخرين، ومع مصالح المجتمع الدائمة والكلية».
لم يك ماديسون فقط من أطلق بوق القرن الأميركي في هذا الصدد، ذلك أن أول رئيس للولايات المتحدة، جورج واشنطن، وفيما يعرف بـ«خطبة الوداع»، تلك التي وجهها لناخبيه في 17 سبتمبر (أيلول) 1796، لدى رحيله عن سدة الرئاسة، أنذر بدوره من «الآثار الوبيلة للعصبية الحزبية».
غير أن «تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية»، والذي سيصبغ سياسات واشنطن بازدواجية مثيرة، كان قد وجد طريقه لأميركا مبكراً.
حث ماديسون، توماس جيفرسون، وقبل أن يضحى الرئيس الثالث للبلاد، على المشاركة في تنظيم ضد سياسات ألكسندر هاميلتون، وزير خزانة واشنطن وكاتب خطبة الوداع.
ولعله من قبيل المفارقة التاريخية أن صار مؤسسو الأمة هؤلاء، الذين كانوا يخشون الطوائف وجادلوا ضد الأحزاب نشأة، حيث كان الحزب الديمقراطي - الجمهوري الجيفرسوني السياسية، زعماء أول حزب سياسي عام 1791م.
تالياً ومنذ خمسينات القرن التاسع عشر، يهيمن حزبان سياسيان رئيسيان على الحياة السياسية في الداخل الأميركي، الحزب الديمقراطي، والحزب الجمهوري، ويستند نظام الحزبين إلى قوانين وقواعد حزبية وأعراف، غير منصوص عليها، على وجه التحديد، في دستور الولايات المتحدة.
هل يعني ذلك أنه لا توجد أحزاب أخرى قائمة، وربما قادمة في طول الدولة القارية وعرضها؟
الشاهد أنه جرت في مياه الأميركيين أحزاب صغيرة عديدة، يظهر من بينها بعض الوجوه، تلك التي تفوز أحياناً بمناصب صغيرة على المستوى الولاياتي أو المستوى المحلي، وغالباً ما تكون المناصب المحلية غير حزبية.
يتساءل القارئ: لماذا استحضار الماضي، هذه الأيام على نحو خاص؟
مؤكدٌ أن الأمر موصول بمشهد واحدة من أعقد الانتخابات الرئاسية الأميركية، 2024، تلك التي بات من الصعب القطع بمآلاتها لا سيما في ضوء حالة الثأر الانتخابي، لا المنافسة السياسية، التي تجري بها المقادير، ما بين المرشحين اللذين أصبحا ظاهرين على الساحة العامة للبلاد، لكن ربما إلى حين إشعار آخر، ولو جاء النبأ الخاص به في الربع الساعة الأخير من الساعة الحادية عشرة، قبل نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
هل الأمر موصول بالمرشحين جو بايدن، ودونالد ترمب فحسب، أم أنه متعلق بشكل الخيارات الحزبية التي باتت طريقاً مقدراً للأميركيين، أي حتمية الاختيار بين مرشح من حزبين، إما أن يكون ديمقراطياً وإما جمهورياً، مع حالة انسداد تاريخي غير مسبوقة، تجاه أي مرشح آخر من أحزاب ثالثة؟
المتابع لمشاهد الداخل الأميركي سوف تفاجئه حركة جديدة تنمو بقوة يوماً تلو الآخر، عنوانها No Lables أو «لا للملصقات»، والتي تنادي بأن تكون هناك خيارات أخرى أمام الناخب الأميركي، غير الحزبين الكبيرين المعتادين... ما هي ماورائيات هذه الحركة؟
باختصار غير مخل، إنها إفراز طبيعي لحالة الرفض التي تكاد تشمل الملايين من الأميركيين، الذين لامسوا برؤوسهم سقف مستويات الفساد التي تخيم على الحياة السياسية الأميركية، ما بين ديمقراطيات تباع على الأرصفة، بمعنى تزوير إرادة الملايين من خلال العشرات أو المئات الذين يملكون المليارات، وبمقدورهم التلاعب بمقدرات الرأي العام، ومرشحين تمتلئ أحاجي حيواتهم بنقائص أخلاقية ومالية، تجعل من قيادتهم للبلاد والعباد مخاطرة كارثية، تقود أميركا نحو «عمورة» من دون شك، والتعبير لأحد قضاة المحكمة العليا الأميركية السابقين، روبرت ه. بورك، والذي ضمنه كتاباً مثيراً.
على عتبات انتخابات رئاسية يُظهر استطلاع رأي لشركة «أبيسوس» أن هناك نسبة ليست بضئيلة من الناخبين، يحدوهم الأمل في التصويت لمرشح ثالث غير بايدن وترمب، لا سيما حال الأخذ في عين الاعتبار أن الأول تطارده حقائق التدهور الصحي، وتراجع الإدراك الذهني، عطفاً على قضايا فساد شارك فيها مع ابنه هانتر، ويجد من يقدم له الأعذار، ويفوت عدالة تقديمه للمحاكمة، فيما الثاني تلاحقه نحو 91 تهمة، منها قضايا جنائية، كما أن احتمالات الحكم عليه بالسجن قائمة وبقوة، ما سيضع أميركا أمام أزمة لم تعرفها من قبل، وبخاصة إذا قدر له الفوز بأصوات غالبية الناخبين.
في هذه الأجواء تفيد استطلاعات «أبيسوس» بأن ثلثي الناخبين الأميركيين قد ملّوا من رؤية نفس المرشحين، لا سيما بعد أن ملآ سماوات الحياة الأميركية بأنواع كارثية من الضغائن الشخصية، يمكنها أن تجعل من نوفمبر المقبل موعداً لعنف دموي تاريخي.
بعد دقائق معدودات من حصول بايدن على 1968 صوتاً من أصوات المندوبين اللازمة لحصوله على ترشيح الحزب الديمقراطي له، أصدر بياناً كله إسقاطات على ترمب بوصفه عائق الأميركيين أمام الديمقراطية، وطريقهم إلى الفوضى والتطرف.
ترمب من جهته لم يقصر، فعبر فيديو مصور، رأى أنه لا وقت للاحتفال، بل «العمل على إزاحة أسوأ رئيس في تاريخ أميركا».
يشعر الأميركيون بالامتعاض إزاء تهميش قضاياهم الرئيسية من هجرة وتضخم، من استقطاب مجتمع، وإرهاصات حرب أهلية، من قيم ديمقراطية تتدهور والتفرغ لمكايدات سياسية، ما يجعل الملايين تفكر جدياً في طريق لإزاحة الاثنين معاً.
على مقربة من انتخابات الرئاسة، تطل وجوه بعضها شباب مثل جيل شتاين، مرشحة حزب «الخضر»، والتي تسببت في خسارة هيلاري كلينتون عام 2016، وكرونيل ويست مرشحة حزب «المستقبل»، أما المرشح المستقل روبرت كيندي، سليل العائلة القدرية، فقد بلغت نسبة تأييده في بعض استطلاعات الرأي نحو 18 في المائة.
على أنه وإن كان خيار الطريق الثالث الحزبي للأميركيين هذه المرة بعيداً نوعاً ما، لكنه قد يكون على مقربة من انتخابات 2028، ويتبقى الاختيار الآن بين أهون الشرين؛ بايدن أو ترمب، كما تقول وسائل إعلام أميركية، ما لم تحدث قارعة محتملة من الآن وإلى موعد المؤتمرات الوطنية الرسمية لإعلان المرشحين النهائيين.