بقلم : إميل أمين
لا تزال أزمة الجسم الذي كان طائراً والذي ظهر فوق سماوات الولايات المتحدة، تطرح أسئلة مثيرة بل وخطيرة، وغالب الظن أن كثيراً من الإجابات، بشأن ما يمكن أن نطلق عليه، «غزوة المنطاد الصيني»، ستظل طي الأضابير الاستخباراتية الأميركية والصينية، ولن يعرف العالم إلا ما بقدر ما يريد القائمون على الماورائيات الإخبارية.
جاء ظهور المنطاد، بعد أيام قليلة من المذكرة التي وزعها الجنرال، مايك مينيهان، مدير إدارة النقل والحركة في القوات الجوية الأميركية، على مرؤوسيه، منذراً ومحذراً فيها من احتمالات الصدام الجوي مع الصين خلال عامين، وتوقعاته حول غزو الصين، تايوان، خلال انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، في 2024.
التساؤلات الحائرة تبدأ من هنا، فهل أراد الصينيون على سبيل المثال إرسال رسالة للأميركيين مفادها أننا قريبون جداً منكم، وربما لا ولن ننتظر - إذا شئنا - حلول الموعد المرتقب؟
ما يدور في كواليس الصراع الأميركي - الصيني، غالبه غير معلوم للعوام، وإن كان لا يخفى عن النخبة الاستخباراتية والإعلامية وثيقة الصلة بدوائر السياسات الخلفية، لا سيما أن الصينيين لا ينفكون يعملون جاهدين على جعل التكنولوجيا الأميركية، عسكرية كانت أو مدنية، في متناول أياديهم، وبأي صورة كانت.
هل كانت سماوات الولايات المتحدة، على موعد مع أدوات الصين التجسسية، المختلفة أشكالها وأسماؤها؟
هذا ما أماطت عنه اللثام صحيفة «نيويورك تايمز»، بعد أن أسقطت الطائرات الحربية الأميركية المنطاد، أمام سواحل كارولينا الجنوبية.
لم تكن مذكرة مينيهان وحدها من نبه للخطر الصيني، فقد تلقى الكونغرس الأميركي الشهر الماضي، تقريراً سرياً يفيد بأن أعداء أميركا يخططون لاستخدام تكنولوجيا جوية متقدمة للتجسس على البلاد.
التقرير الذي وصل إلى نواب الشعب الأميركي تحدث عن حادثتين على الأقل لقوة منافسة تقوم بمراقبة جوية متقدمة للتجسس على البلاد، عبر ما أطلق عليه «الظواهر الجوية المجهولة».
لدى الأميركيين قناعة بأن الصينيين باتوا، وكما يقال، يعدون عليهم أنفاسهم، ويسخرون طوابير من الجواسيس لسرقة آخر المخترعات التقنية، بل إن بعض المثلثات الخضراء غير المفهومة، ظهرت مؤخراً فوق سماوات تدريبات تجري في المحيط الهادي لقوات البحرية الأميركية، ولاحقاً اكتشف أنها مسيرات للتجسس.
علامة استفهام أخرى موصولة بالفكر الصيني تتقاطع وما جرى يجري في غزوة المنطاد، التي لم تقنع فيها تصريحات وزارة الخارجية الصينية، أي صاحب عقل رشيد، بصحتها، إذ ليس من المقبول عقلاً أو عدلاً، أن يكون المنطاد الذي يبلغ حجمه 3 حافلات مدرسية، قد ضل طريقه عبر 10 آلاف كيلومتر، ليعبر جزر ألوشيل شمال ألاسكا، ويمر فوق كندا، ليصل إلى ولاية مونتانا، حيث توجد قاعدة مالستروم الجوية، حيث صوامع صواريخ «مينوتمان 3»، الباليستية العابرة للقارات.
مفاد التساؤل: «هل غيرت الصين طرائق تفكيرها الاستراتيجية، وتنكرت لحكمتها التقليدية؟ أو بمعنى آخر؛ هل انتصر، صن تزو، على كونفوشيوس، في معركة المواجهة مع الأميركيين؟
يبدو الكلام غريباً وعجيباً، لكنَّه في واقع الحال، ليس كذلك بالمرة.
قديماً كان يرى حكيم الصين الأكبر والأعظم، كونفوشيوس، أن الصراع أمر طبيعي ملازم للوجود، لكن الوجود يحتمل هذا الصراع، ويفتح الطريق للتعايش معه، ومن غير ضرورة لإقصاء الآخر، وكثيراً ما تكرر القول... «لا تنتقم، بل اجلس على حافة النهر، وسوف يجيء التيار حاملاً معه جثة عدوك».
صراع المناطيد، يرجح كفة فيلسوف الحرب الصينية، صن تزو، من القرن الرابع قبل الميلاد، صاحب العمل الأشهر، «فن الحرب»، لا سيما أنه من سطر يقول: «إن الذين يعرفون أعداءهم، كما يعرفون أنفسهم، لن يعانوا أبداً من الهزيمة».
لا تبدو القصة غير طبيعية، بل إنها تتسق مع السعي الصيني لتغيير النظام العالمي الحالي، وبلورة رؤية كوسمولوجية مغايرة، ولهذا تابع العالم قصصاً عن مناطيد أخرى، بعضها ظهر فوق كولومبيا، بأميركا اللاتينية، حيث الخلفية الجغرافية، والنفوذ التاريخي للولايات المتحدة، والبعض الآخر فوق اليابان، الضلع الثالث من أضلاع الرأسمالية العالمية بعد أوروبا، عطفاً على الفلبين الحليف التقليدي للولايات المتحدة، وأخيراً فوق الهند، العدو التقليدي للصين، الذي سيفوقها عدداً، وغالباً عدة في العقود المقبلة.
ما الذي ينقص الصينيون في الفضاء، وقد بلغوا الجانب المظلم من القمر، وأقمارهم الصناعية تجوب الفضاء طوال 24 ساعة، ليرسلوا منطاداً من اليسير، بل من المؤكد أنهم يعرفون قدرات الأميركيين على إسقاطه؟
هل كان الهدف إشعال الداخل الأميركي المتشظي سياسياً في مزيد من الصراعات الداخلية؟
لو كان ذلك كذلك، فإنهم نجحوا بالفعل، وليس أدل على ذلك من تصريحات جونيور دونالد ترمب، ابن الرئيس السابق، التي تهكم فيها على الرئيس بايدن، بالقول إنه «انتظر حتى يكمل المنطاد مهمته، ليسقطه».
الرد من الديمقراطيين جرى عبر فتح ملفات غالباً استخبارية، أشاروا فيها إلى أنه في عهد ترمب، ظهرت 3 مناطيد فوق سماوات البلاد، ولم يتم التصدي لها بالمرة.
تبدو القصة وكأنها استدعاءً لزمن الحرب الباردة الجديدة مع الصين، وبات التساؤل الذي يشغل كبار المفكرين الأميركيين، وفي معظم، إن لم يكن كل مراكز الدراسات الأميركية، وفي مقدمتها «راند»، عقل البنتاغون بل وقلبه النابض: «هل لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة آليات واضحة لإدارة مثل هذا الصراع على المدى البعيد؟».
هل نحن أمام «فخ ثيوسيديس»؟