أحد الأسئلة المثيرة لقلق المراقبين لِما يجري في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، هو ذاك المتعلّق بمستقبل الحضور الإيراني على أكثر من صعيد في عام 2024، لا سِيّما أنّه عام الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة 2024.
هل يمكن لإيران أن تستغلّ الانشغال الأميركي الداخليّ، لتمضي قُدماً في تنفيذ مزيد من مخطَّطاتها وفي المقدّمة منها السعي لامتلاك السلاح النوويّ، ناهيك بمحاولة بسط مزيد من النفوذ في المياه الدوليّة؟
لعله من البدهيّ القول إنّه ما من إدارة أميركيّة، ديمقراطيّة كانت أم جمهوريّة، تسعى إلى الدخول في معارك عسكريّة، في عام الانتخابات، وإدارة بايدن الديمقراطيّة تتذكّر بنوع خاصّ، كيف أنّ إيران كانت سبباً مباشراً في خسارة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر ولايته الثانية في مقابل الجمهوري رونالد ريغان.
ذهب كثير من المحلّلين إلى القول إنّ انسحاب عدّة قطع بحريّة أميركيّة ثقيلة الوزن من مياه البحر الأحمر مؤخّراً، أمرٌ كانت وراءه نيّة تهدف إلى عدم التصعيد مع الإيرانيّين، في البحر الأحمر، وبخاصة بعد قصف زوارق للحوثيّين أدّت إلى وفاة عشرة أشخاص منهم في الحال.
هل ما يجري بالفعل هو تراجع أميركيّ، تستغلّه إيران؟
من المثير أنّه في الوقت الذي تنسحب فيه قطع البحريّة الأميركيّة ذات الإمكانات العسكريّة القادرة على بعث رسائل إلى الإيرانيّين، نجد انتشاراً إيرانياً تَمثَّلَ في دخول المدمِّرة البحريّة الإيرانيّة «تسنيم» إلى مياه البحر الأحمر، بحجّة العمل على تأمين الممرَّات التجاريّة ومواجهة القرصنة ومهمات أخرى.
هنا التساؤل: هل تسعى الولايات المتّحدة بانسحابها هذا إلى تقليص مساحات الصدام الممكنة مع إيران، لا سيّما في ظلّ اشتعال الأزمة من جديد في غزَّة؟ أم أنّ الأمر برُمَّتِه ليس إلا استرضاء عديم النفع لإيران؟
تبدو إيران، وعن حق، كمن يستغلّ الوضع الراهن في المنطقة، عبر السعي لعسكرة الأزمات المتراكمة شرق أوسطيًّا، ولهذا جاء تصريح الجنرال محمد رضا نقدي، مساعد قائد الحرس الثوري للشؤون التنسيقيّة بإغلاق «البحر المتوسّط ومضيق جبل طارق ومَمرَّات مائيّة أخرى». ما الذي يعنيه هذا التصريح؟
الحديث عن المتوسّط على هذا النحو، إنّما يعكس شهوة قلب طهران في أن تصبح قوّة ما بعد إقليميّة، بمعنى أن تقترب من حدود القوة العالميّة، القادرة على إرسال قطعها الحربيّة خارج نطاق جغرافِيَّتها ومياهها الإقليميّة، ولعب دور متقدِّم لا تستطيع أن تقوم به سوى القوى الكبرى أو العظمى سياسياً واقتصادياً.
على أنّ الفرصة الكبرى التي غالباً ما تتطَلَّعُ إليها القيادات الإيرانيّة خلال العام الجاري، موصولة بالبرنامج النوويّ، الهدف الأعلى والأسمى، الذي تسعى إليه إيران بكلّ قوّتها، في محاولة منها لتضحى القوّة الإقليميّة المكافئة لإسرائيل شرق أوسطيًّا.
بحلول أوائل شهر ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، ووسط زوابع الشرق الأوسط القريب، والخلافات التي تعتمل في الداخل الأميركي البعيد، ضاعفت طهرانُ إنتاجَها من اليورانيوم العالي التخصيب ثلاثَ مرّات، بعد عِدّة أشهر من تخفيضها الإنتاج.
العهدة هنا على الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة، التي أكّدتْ أن المستوى الشهري لإنتاج المنشآت النوويّة الإيرانيّة، وصلَ إلى نحو 9 كيلوغرامات من اليورانيوم العالي التخصيب بنسبة 60 في المائة بدلاً من 3 كيلوغرامات كانت تُنتجها سابقاً.
تبدو قصّة التخصيب الإيراني لليورانيوم واحدة من قصص التلاعب بالمجتمع الدوليّ، وبوكالة الطاقة الدوليّة بشكل واضح وفاضح؛ ففي فبراير (شباط) من العام الماضي تبَيَّنَ أنّ إيران وصلت إلى مستوى تخصيب يزيد على 80 في المائة بعد أن لاحظ مفتِّشٌ من الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة، تعديلاً في أنابيب أجهزة الطرد المركزيّة لديها.
تحوز إيران اليوم كَمّيّات من اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 60 في المائة، وهي تحتاج إلى أقلَّ من شهر من أجل تحويله إلى يورانيوم مُخصَّب بنسبة 90 في المائة، ولا تحتاج إلا إلى 15 كيلوغراماً، تمثّل الكتلة الحرجة اللازمة للحصول على قنبلة نوويّة.
ما الذي يمكن لإدارة بايدن أن تفعله في المقابل؟
أكثر ما تخشاه واشنطن في الآونة الحاليّة هو فتح جبهات صراع أخرى في بداية هذا العام الحرج والحسّاس، ذلك أنّها لا تزال في ورطة كبرى في أوكرانيا، لا سِيّما بعد الإخفاقات المتكرّرة لكييف بقيادة زيلينسكي.
واشنطن كذلك في مواجهة حالة من التشَدّد الصيني تبدَّتْ بشكلٍ مؤكّدٍ في كلمة الرئيس شي جينبينغ عشيّة رأس السنة، حيث تحَدَّثَ بقسوة شديدة عن حتميّة رجوع تايوان إلى حضن الصين المُوحَّدة، ما يعني أن الصين بدورها يمكنها أن تستغلَّ اضطرابات عام الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، للقيام بعمل مُسَلَّحٍ في تايوان.
وفوق كلّ ذلك يبقى ملفُّ الصراع في الأرض المحتلّة قائماً وقادماً، حتى وإن اختلفتْ طرقُ المواجهة، فعوضاً عن «النيران الغبيّة»، بدا مسلسل الضربات الجراحيّة أو الانتقائيّة، متمثّلاً في اغتيالات عناصر «حماس» و«الجهاد» و«الحشد» و«النجباء» ومَن لَفَّ لفَّهُم، يتحَقَّقُ على الأرض، بما يمكنه أن يُفقِدَ المنطقة سلامَها، ويجعل الكثير من المصالح الأميركيّة أهدافاً للكارهين والمعتدين.
ما الذي ستفعله إدارة بايدن في مواجهة المُخطَّطات الإيرانيّة هذا العام؟
مؤكَّدٌ أنَّ الكرة الآن في ملعب الدولة الأميركيّة العميقة التي تعرف الخطر الآنيّ والمستقبليّ لإيران أكثر من الإدارة العالقة في فخّ إبستين وشركائه.