الذين تابعوا نهار السبت حفل تنصيب الملك تشارلز الثالث، ربما لفت انتباههم هذا البروتوكول الشديد الانضباط، والتريبات الملكية التقليدية، عطفا على الطقوس الدينية المرعية في انتقال الملك.
غير أن هناك ربما الشق الأهم، الذي ينبغي أن يتوقف عنده أصحاب العقول المفكرة، حول شخصية الملك تشارلز الثالث، والدور الحضاري الذي لعبه لعقود طوال بين الشرق والغرب، ورؤيته العادلة والمنصفة للعالم العربي والإسلامي، سيما أنه يعرف برفضه لنظريات التصنيف المانوي للعالم، بين معسكرين شرقي وغربي، كما يرفض المعادلات الصفرية، ويشجب التوجه الذي تبناه المفكر الأميركي صموئيل هنتنتغون حول صدام الحضارات.
يمكن القطع دون تهويل، بأن الملك تشارلز من أهم الشخصيات الرسمية ذات الثقل في الغرب، والتي تبادر في طريق إنصاف الإسلام في الغرب، وعرف طوال عقود ولايته للعرش التي طالت، بأنه رجل صادق في حديثه، باحث عن نقاط التلاقي، وله جهود كبيرة في سياق روح التسامح الديني، ليس في بلاده فحسب، بل في عموم القارة الأوربية عن بكرة أبيها.
قبل ثلاثة عقود، وبالتحديد في 27 أكتوبر من عام 1993، قدم الأمير تشارلز وقتها رؤية رائقة رقراقة عن العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي، وكان ذلك في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد.
في حقيقة الأمر كان الخطاب غير مسبوق، سيما أنه أعاد فيه الاعتبار للإسلام، وإزالة ما أحاط به من حملات التشكيك.
هذا الخطاب وبعد تلك العقود، لا يزال أثره في حقيقة الأمر قائما، سيما أنه جاء وقتها في زمن ارتفعت فيه التنبؤات الأبوكريفية التي روج لها هنتنغتون، وفيها اعتبر أن الصدام بين الشرق والغرب، قدر مقدور في زمن منظور كما يقال.
في ذلك الخطاب، عبر تشارلز عن أسفه العميق لما وصلت له الحالة بين عالمين، تجاورا وتحاورا طويلا جدا، وعبر قرون خلت، ويومها أضاف أنه رغم التقدم التكنولوجي ووسائل الاتصال، وانتقال الناس بشكل واسع عبر الحدود، وإختلاط الأجناس، وكشف الكثير من الألغاز في هذا العالم، فإن سوء الفهم بين الإسلام والغرب لا يزال مستمرا، بل ربما أخذ يزداد.
الأمير تشارلز وفي تلك المحاضرة الخلاقة، أقر بصراحة أن الجهل هو العدو الحقيقي الذي ينبغي أن تتم محاربته، وأنه لا يمكن أن يقوم له بنيان في عالمنا المعاصر، حيث الناس تسافر من الشرق للغرب، والتعارف القراني ماض قدما بين أبناء الشعوب والحضارات، ويومها تساءل: "لماذا إذن يستمر الشك والجهل؟
في تلك المحاضرة التي ينبغي أن نعيد قراءتها اليوم، أعلن تشارلز أن الغرب لم يتفهم المخاوف الحقيقية لكثير من أبناء العالم الإسلامي من المادية الغربية والثقافة الشعبية واعتبارهما التحدي الذي يهدد ثقافة العالم الإسلامي وأسلوب حياته.
ربما كان تشارلز من أوائل الذين نبهوا للجانب الخفي من العولمة، ذلك الذي يتسبب في الانعزال عند البعض، خوفا من التلاقي أو التواصل، وربما بسبب ما يراه البعض غزوا ثقافيا.
كان ولي العهد البريطاني من أوائل الأصوات الصادقة التي تكلمت عن فخ الغرور الروحي الغربي، معتبرا أن بني جلدته يسقطون في جب الغطرسة حين يخلطون بين تحديث المجتمعات وفرض النموذج الغربي عليها، وعنده أن التحديث يجب أن يكون نابعا من هذه المجتمعات ومتفقا مع طبيعتها.
ذهب تشارلز في ذلك اليوم للقول إن المادية الغربية قد لا تتفق مع طبيعة المسلمين غير المتشددين. كما أن الغربيين لا يتفهمون بعض الممارسات والمعاملات في الحياة الإسلامية. وينظرون إليها بوصفها تعبيرا عن التشدد أو الأصولية.
هنا حذر الرجل من استخدام تعبير "الأصولية" دون ملاحظة الفرق بين السواد الأعظم من المسلمين المعتدلين السمحين، وبين الفئة الباغية، الخارجة عن صحيح الدين ورحمته وعدله وسلامه.
لم تكن محاضرة أكسفورد وحدها هي المناسبة التي تعرف فيها العالم العربي والإسلامي على فكر الأمير تشارلز وقتها، ذلك أنه لم ينفك في الكثير من الأوقات الحرجة أن يفكك الاتهامات الموجهة بشكل جماعي للعرب والمسلمين، من باب التعميم المذموم.
كرر تشارلز التنبيه لخطأ الاعتقاد السائد في الغرب بأن التطرف من طبيعة المسلم والإسلام، ويعترف علنا بأن التشدد والتمذهب، موجودان في الأديان التوحيدية، وكذا في المذاهب الوضعية، ويقر بأن الغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال، لأن دينهم هو دين الاعتدال.
كان تشارلز من الأصوات العادلة في حكمه على الحضارة العربية والإسلامية، فقد صرح مرات عدة بأن المشكلة ليست فقط في وجود قدر كبير من سوء الفهم بين الغرب لطبيعة الإسلام، ولكن هناك أيضا قدرا كبيرا من الجهل بفضل الثقافة والحضارة الإسلامية على الغرب.
شهد تشارلز بأن العالم الإسلامي في العصور الوسطى كان مصدر العلم والحضارة للغرب، ولكن الغربيين تجاهلوا أهمية الحضارة الإسلامية في تقدم الغرب، لأنهم يميلون إلى اعتبار الإسلام عدوا لهم ويرون أنه يمثل عقيدة وثقافة غربية، بينما الحقيقة أن الثقافة والعلوم الإسلامية كانت قد ازدهرت في إسبانيا واستمرت 800 عام بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر.
يعد تشارلز من الصادقين الذين أقروا بفضل الحضارة العربية في أوروبا سيما أن مسلمي الأندلس هم من قام بجمع وحفظ التراث الفكري للحضارة اليونانية والرومانية، وأضافوا الكثير في مجالات العلوم الطبيعية، والفلك، والرياضيات، والجبر، والقانون، والطب، وعلم العقاقير، والبصريات والزراعة.
يعتقد تشارلز بأن أوروبا مدينة لكثير من علماء المسلمين في الأندلس من أمثال ابن رشد، وابن زهر، كما ساهم علماء المسلمين في الشرق من أمثال ابن سيناء والرازي في علوم الطب وابتكار طرق استفادت منها أوروبا على مدى قرون عديدة.
ما تقدم في حقيقة الأمر غيض من فيض، ولا يمكن أن يوفي شخص الملك تشارلز الثالث حقه، عن دوره التقدمي في مجال مداواة الجراح الحضارية التي تسبب فيها الكثير من أعداء التعايش.
ومع تنصيبه اليوم رسميا ملكا للبلاد، يمكننا القول إن لدى العرب والمسلمين صديق صادق في قصر باكنغهام.