تمثل الحالة الإقليمية مكانة وسطًا فى التحليل السياسى الدولى ما بين حالة الدولة الوطنية وإطارها «الجيوسياسى» تعاونًا وتنافسًا، والنظام الدولى المُعبر عن توزيع القوة الهرمى بين القوى الرئيسية فى العالم. وفى هذا الموقع الوسطى، تولدت روابط إقليمية قامت أحيانًا على التحالف العسكرى، وأحيانًا أخرى على العلاقات الاقتصادية، ولكنها أخذت أشكالًا أكثر قربًا، كان أبرزها الاتحاد الأوروبى. ولعل الغرض الدائم من الروابط الإقليمية هو الاستفادة من القرب الجغرافى، وبزوغ تهديدات ومصالح مشتركة بين الدول. وانطلاقًا من ذلك، يتناول هذا المقال التفاعلات والتحالفات الإقليمية المتوقعة فى منطقة الشرق الأوسط خلال عام 2023، استنادًا إلى السوابق التاريخية، والتطورات التى شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، خاصةً على صعيد الدول الرئيسية الفاعلة فى الإقليم.
سوابق الشرق الأوسط:
عرف الشرق الأوسط العديد من أشكال الأحلاف العسكرية، والتى تمثلت فى معاهدة الدفاع العربى المشترك، وفى حلف بغداد، ومن بعده الحلف المركزى.. ولكن من الناحية الاقتصادية، فإن الروابط الإقليمية بزغت فى إطار من التهديدات الدولية أو الإقليمية.
وأثناء الحرب العالمية الثانية مثلًا، وجدت بريطانيا أنه لابد من وضع آلية يمكن من خلالها التعامل مع الأوضاع الاقتصادية المتعثرة بفعل عمليات الغواصات المتقاتلة فى البحر الأبيض المتوسط. وفى أبريل 1941، أنشأت بريطانيا ما سُمى «مركز إمداد الشرق الأوسط» Middle East Supply Center «MESC»، لكى يوفر الحاجات الأساسية من الغذاء والدواء، سواء كان ذلك بالاستيراد من مناطق أخرى، أو من خلال تشجيع الإنتاج المحلى، أو التعاون الإقليمى الذى كان نقطة البداية فيه بين مصر وفلسطين وسوريا. وتمدد هذا المركز خلال فترة الحرب آنذاك، وخفف من آلامها، وتشجعت صناعات محلية على تعويض المفقود الناتج عن العمليات الحربية. وانتهى عمل ذلك المركز مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن الجائز أن فكرة الحاجة إلى التعاون الإقليمى ظلت باقية، وربما كانت من الدوافع وراء إنشاء جامعة الدول العربية.
نتائج «الثورات العربية»:
تراوحت التجارب الإقليمية فى الشرق الأوسط بين محدودية النتائج والفشل الكامل، لأسباب كثيرة تعود إلى طبيعة الدولة الوطنية، والضغوط التى أوقعها الصراع العربى - الإسرائيلى على الدول العربية. ولم يكن العقدان الأولان من القرن الواحد والعشرين رحيمين بالعرب عندما تراوحت أحوالهم بين الجمود خلال العقد الأول، والثورة فى العقد الثانى والتى سُميت «الربيع العربى».
والنتيجة الأساسية لهذه المرحلة كان أولها بزوغ «الإسلام السياسى» كقوة ساعية إلى شكل «الخلافة الإسلامية» كرابطة بين دول المنطقة، وثانيها «الحروب الأهلية» والنزاعات العنيفة الداخلية بين قوى سياسية وطائفية، وثالثها أن الدول غير العربية الإقليمية، خاصةً إيران وتركيا، عملت على استغلال «حالة الخلل الثورى» من أجل التدخل فى مجمل الإقليم العربى، ورابعها واعتبارًا من عام 2015 شهد الإقليم الكثير من التطورات التاريخية فى المنطقة لايزال بعضها عاكسًا لانهيارات ما بعد الثورات، ونجمت عنها اعتداءات عسكرية قامت بها ميليشيات موالية لإيران ضد السعودية ودولة الإمارات؛ ولكن بعضها الآخر ولّد موجات من الإصلاح القائم على مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المقدسة، والهوية التاريخية لمواطنين متساوين فى الحقوق، ومشروع وطنى للتنمية والتقدم الاقتصادى والاجتماعى.
وكانت نتيجة تلك المرحلة حالة من الفرز فى التحالفات الإقليمية، حيث تكوّن «التحالف الرباعى» من (السعودية والإمارات ومصر والبحرين)، وجميعها من «دول الإصلاح»، فى مواجهة محور إقليمى آخر كانت بعض دوله داعمة لجماعة الإخوان المسلمين.
العلاقات الإقليمية الجديدة:
من الذائع فى علم العلاقات الدولية أن السياسات الخارجية للدول ترتبط كثيرًا بالسياسات الداخلية لها فيما يُسمى «Linkage Politics». وكان طبيعيًا، وفق ذلك، أن يترتب على عمليات الإصلاح الداخلى واسعة النطاق السعى إلى إعادة ترتيب العلاقات الإقليمية. والإصلاح هكذا حالة متعددة الأبعاد، ولكنها لا تستمر ولا تؤتى ثمارها إلا بكثير من الاعتدال للفكر ورفض التطرف، ليس فقط فى الساحات الداخلية للدول، وإنما كذلك فى ساحاتها الخارجية. والقول الشائع دائمًا هو أن «دول الإصلاح» تسعى إلى «تصفير الصراعات والمشاكل»، وهذه الدول بحكم طبيعتها التنموية تخلق شبكات من العلاقات القائمة على مصالح أمنية وسياسية واقتصادية مشتركة تُسهل عمليات التنمية وتُعالج المطبات العالمية والإقليمية.
وأخذت أشكالٌ جديدة من الدبلوماسية والسياسة طريقَها إلى الساحة الإصلاحية، وهنا فإن تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية لم يفصل بين البلدين، وإنما قرب من بعضها البعض، حينما خلق مشروعات كبرى لتنمية شمال غرب المملكة فى إقليم «العُلا»، لكى تلتقى مع التنمية فى شمال شرق جمهورية مصر العربية فى سيناء، بحيث يُقدمان حزامًا سكانيًا جنوب فلسطين وإسرائيل والأردن. كذلك، فإن تخطيط الحدود البحرية بين مصر وكلٍّ من قبرص واليونان فتح مجالًا واسعًا لمنتدى غاز شرق المتوسط لكى يجمع بين فلسطين وإسرائيل والأردن، وثلاث دول أوروبية (قبرص واليونان وإيطاليا)، فى تجمع اقتصادى تكون مصر فيه هى المركز والمعبئة للموارد لصالحها وصالح جميع الأطراف.
وهذا النهج فى العلاقات الإقليمية فتح الباب لعدد من الروابط الإقليمية الجديدة، بعضها ظل قليل الأثر، إلا رابطة التشاور المستمر، مثل محاولة قيام ما سُمى «الشام الجديد» الذى يربط بين مصر والأردن والعراق.. ولكن هذه فتحت الباب لمرور «خط الغاز العربى» من مصر إلى الأردن إلى سوريا ليصل إلى لبنان، والتى نجحت بدورها فى توقيع اتفاق الخطوط البحرية مع إسرائيل واقتسام حقل الغاز بينهما.
الطريق إلى 2023:
شكّل «بيان العُلا» الذى خرج عن قمة مجلس التعاون الخليجى فى 5 يناير 2021 مجالًا للتهدئة فى الإقليم، وإزاحة العقبات فى العلاقات القطرية مع دول الرباعية العربية، وعودة العلاقات بين دول الخليج إلى طبيعتها، وفتح أبواب الدبلوماسية والسياسة مع إيران وتركيا، والاقتراب المختلف إلى إسرائيل من خلال اتفاقيات السلام الإبراهيمى، ومن قبله منتدى غاز شرق المتوسط، واجتماع النقب الذى حضرته 4 دول عربية مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، مع نية تطوير أشكال مختلفة من التعاون، والتنبيه إلى أن القضية الفلسطينية لا تزال باقية وحاضرة. كما قامت مصر وإسرائيل بتوقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبى لإمداد الأخير بالغاز المُسال لتعويض دوله عن خسائر الغاز الروسى الذى بات مستعصيًا على الحضور بسبب الحرب الأوكرانية.
ومن المتوقع أن تقوم «الإقليمية الجديدة» فى عام 2023 على نسج علاقات ومصالح يجرى إنضاجها على نار هادئة، وتكون مهمتها الاستجابة إلى مصالح قائمة ومتوقعة؛ وباختصار، فإنها تضيف إلى قوة الدولة وسعادة شعبها، وفى الوقت نفسه تخلق توازنات جديدة ليست فيها الشعارات المألوفة عن الوحدة العربية، وإنما يوجد فيها الترويض والاستيعاب لقوى دولية وإقليمية. فهى نوع من «الصبر الاستراتيجى»، والقدرة على إقامة الجسور من دون تعجل؛ المُركب العربى فيها واضح، يبادل ويوفق مصالح. وفى هذا الصدد، فإن لقاء الرئيس الأمريكى، جو بايدن، مع قادة تسع دول عربية فى منتصف يوليو 2022، ثم القمة الصينية - العربية المرتقبة للرئيس شى جين بينغ فى السعودية يوم 9 ديسمبر 2022، يوضح إلى أى حد أن توازنات القوى فى المنطقة تتغير، ليس فقط عسكريًا واقتصاديًا، وإنما أكثر من ذلك ثقافيًا، حيث أصبح «التجديد الفكرى» دينيًا ومدنيًا،وأكثر من ذلك استيعاب التقدم وشروطه.
إشكاليات المسار الإقليمى:
داخل المنطقة العربية لاتزال أزمات «الربيع العربى» قائمة، والمحيط الإقليمى لا تزال له عقده. وبالرغم من مرور نحو 43 عامًا على اندلاع الثورة الإيرانية فى عام 1979، فإن فكرة «الدولة» لا تزال على مسافة بعيدة من «الثورة». كذلك، فإن تركيا بالرغم من النجاح الذى حققته فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، دخلت إلى مرحلة حائرة بين حلمها القديم فى أن تكون جزءًا من الاتحاد الأوروبى، وواقعها «الجيوسياسي» الذى يجعل حدودها تتخبط بجوار الصدام الروسى - الأوكرانى وصدامات آسيا الوسطى، بينما يبقى الحلم التركى لما بعد أتاتورك أن يكون هناك مجال «فتح عثمانى جديد». ومن جانبها، فإن إسرائيل سوف تظل «عُقدة العقد» بموقعها فى وسط الإقليم العربى، وبطاقات القوة الكبيرة لديها، سواء كانت ذاتية أو بحكم العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب.
ختامًا، يمكن القول إن «الإقليمية الجديدة»، حتى الآن، غزلت نسيجًا من العلاقات التعاونية فى مجالات شتى، وبعثت الحياة فى مثيلاتها التى مضت، ولكنها لم تُخرج إسرائيل من المأزق الفلسطينى على أرض الواقع. وما تحتويه كل هذه الإشكاليات من معضلات تخلق فرصًا صغيرة وكبيرة، أهم ما فيها أنها يمكن أن تتجسد فى الواقع من دون اعتماد على قوى خارجية.