بقلم - عبد المنعم سعيد
كانت المفاجأة الاستراتيجية التي وقعت على إسرائيل في ٧ أكتوبر المنصرم ناجمة عن الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها إسرائيل قبيل المفاجأة الاستراتيجية المصرية في 6 أكتوبر 1973.
دراسات المفاجآت الاستراتيجية في العالم كانت في معظمها ناجمة عن أمرين: أمر يخص تعريف حالة الطرف الآخر وتوازن القوى معه؛ وأمر يتعلق بمدى نجاح الاستراتيجية التي قام بها الطرف الذي جرت مفاجأته. وفى الحالتين كانت إسرائيل تضع الطرف العربى في موقع الدونية ليس فقط في السلاح، وإنما نتيجة التنظيم السياسى والاجتماعى ومستويات التعليم والخبرة التاريخية ذات الهزائم التي يستحيل تجاوزها. وعلى العكس، ساد الاعتقاد الإسرائيلى في التفوق النابع من التنظيم والعلم لدى المجتمع والدولة الصهيونية على ترويض الطرف العربى وجذب العالم الغربى إلى ناحيتها. تجربة إسرائيل مع الفلسطينيين سجلت الكثير من الفرقة داخل النخبة السياسية المنقسمة انقسامًا حادًّا وغير القادرة على تجاوز هذه الانقسامات بأساليب ديمقراطية أو غير ديمقراطية.
وسواء كان الفلسطينيون في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، فإن الصورة الإسرائيلية عن الفلسطينيين كانت تتسم بانعدام الكفاءة والقدرة على تجاوز الانشطار الجغرافى والتمايز الاجتماعى بين الضفة، الأعلى قدرًا ودخلًا وتقدمًا، والقطاع، الأشد فقرًا وتخلفًا والأقل تعليمًا. ركزت إسرائيل كثيرًا على تعميق الانقسام بين الضفة والقطاع، حيث شجعت حماس على الاستقلال عن السلطة الوطنية الفلسطينية. كانت الاستراتيجية الإسرائيلية هي دفع حماس في هذا الاتجاه من خلال التمويل، حيث كانت إسرائيل مستعدة لكى تكون طريقًا تمر منه الأموال؛ ومضافًا إليها تقديم التسهيلات الخاصة بالمياه العذبة والكهرباء وصيد السمك في البحر المتوسط؛ ومؤخرًا تشجيع الألوف من فلسطينيى غزة على العمل في إسرائيل لكى يولدوا دخلًا إلى غزة كما يفعل أقرانهم في الضفة الغربية.
ما لم تكن تدركه إسرائيل أنها مُعرَّضة للانقسام، الذي يدفع في اتجاه الانقسام الدينى التوراتى من ناحية والعلمانية السياسية من ناحية أخرى. هذا الانقسام وصل إلى مرحلة انشطار سياسى، لم تحله الانتخابات العامة، التي تتعامل مع ذلك من خلال قاعدة الأغلبية والأقلية، وإنما تحول إلى خروج الجماهير الإسرائيلية، كما خرجت في كل أشكال «الربيع العربى»، وتعدى المتظاهرون في البداية 600 ألف؛ ولم يمضِ شهران إلا وباتت المظاهرات منتظمة أسبوعيًّا، في حضور ٢٥٠ ألف إسرائيلى ضد الحكومة الإسرائيلية. وكان معنى ذلك أولًا أن الجمهور الإسرائيلى لم يجد وسيلة «ديمقراطية» للتعبير عن رفضه لسعى حكومة نتنياهو من أجل إخضاع المحكمة العليا إلى سلطة «الكنيست» سوى الخروج إلى الشارع. وثانيًا أن الحكومة سعت إلى ذلك من أجل إحداث خلل جسيم في التوازن بين السلطة التنفيذية، المالكة للأغلبية البرلمانية، والسلطة القضائية، ومن ثَمَّ منع اللجوء إلى سلطة عليا في حالة تجاوز القوانين الأساسية للبلاد. وثالثًا أن أصل المسألة هي أن إسرائيل دولة بلا دستور، وإنما لديها نوع أساسى من القوانين عند إنشاء الدولة، قام على توافق مؤقت على علمانية الدولة، وهو ما تريد الجماعة الدينية في الحكومة أن تغيره بالانتقال من التشريع البشرى إلى «الشريعة» اليهودية. ورابعًا أنه في مطلع الدولة الإسرائيلية، سمحت القيادة الإسرائيلية لـ«بن جوريون» بمزايا خاصة لجماعات دينية (الحريديم) اعتقادًا منها أنها قليلة العدد وغير مؤثرة في المجموع العام. هذه الجماعات، بعد ثلاثة أرباع قرن من مولد الدولة، ومع تصاعد زيادتها السكانية، باتت مؤثرة في العمليات الانتخابية والاستيطانية.
كل ذلك دفع في اتجاه التطرف، الذي جعل إسرائيل عمياء عن التطورات الجارية داخل المجتمع الفلسطينى، سواء كان ذلك نتيجة التعليم أو العمل في الغرب والحصول على جنسيات مزدوجة، أو حتى التعلم داخل السجون الإسرائيلية، حيث تعلم «يحيى السنوار» الكثير عن المجتمع الإسرائيلى واللغة العبرية، التي فتحت له أبواب هضم التجربة الإسرائيلية. التطورات التكنولوجية الرقمية صبغت الأجيال الشابة الفلسطينية بقدرات جديدة في التسليح والممارسة والمعرفة بالثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة الغربية التي ظنتها إسرائيل احتكارًا خالصًا. والحقيقة أن المفاجأة الاستراتيجية لحماس لم تشمل فقط الجانب العسكرى من الأزمة، وإنما- وهى المصنفة تنظيمًا إرهابيًّا- نجحت في جذب تأييد عالمى بين صفوف الأجيال الشابة في العالم الغربى. ما لم تعرفه إسرائيل أيضًا هو عمق العلاقات بين حماس وإيران، التي وضعتها في مصفوفة «مقاومة» و«ممانعة» تجمعها مع توابع إيران في العراق (الحشد الشعبى) وسوريا (الحرس الثورى الإيرانى) ولبنان (حزب الله) واليمن (الحوثيون)، وهذه كفلت لها جسورًا لأنواع متطورة من السلاح والتدريب عليها، ومعها قدرات متطورة لتهريبها وتجميعها في أنفاق غزة.