بقلم - عبد المنعم سعيد
لم أكن بعيدا عما يجرى فى مصر عندما كنت فى مدينة «ديكالب» الصغيرة فى ولاية إلينوى، فقد كانت «جامعة شمال الينوى» تشغى بكثير من الطلبة العرب الذين استمتعوا براديكالية البعد عن مواطنهم الأصلية. وبينما انشغلت جماعة بالدراسة والعلم وأحيانا مغالبة صعوبات التحول إلى لغة أخرى، فإن جماعة أخرى تبنت بقوة الأقوال التى تبناها الأستاذ محمد حسنين هيكل حول تبديد نتائج استخدام السلاح فى حرب أكتوبر؛ وجماعة ثالثة كانت أكثر عملية وهى استغلال حالة «الغربة» للطلبة العرب لجذبهم إلى صفوف الإخوان المسلمين.
كان التكتيك المستخدم فى هذه الحالة الأخيرة هو استقبال الطلبة العرب، وهو ما حدث معى، من خلال مكتب «الطلبة الدوليين» لتسهيل الانتقال إلى السكن وشراء مستلزماتهم، ثم المشاركة فى صلاة الجمعة التى تتلوها صلوات، وبعد ذلك المساهمة فى هداية الأمريكيين من أصول إفريقية إلى الدين الإسلامى!، كنت قد وصلت متأخرا خمسة أسابيع بعد بدء الدراسة فانسحبت تدريجيا، ولكن جاءت المفاجأة التى قلبت الموقف عندما استيقظنا على قيام الرئيس السادات بمبادرته للسلام التى بدأها بزيارة القدس. استمعت وشاهدت خطاب الرئيس أمام الكنيست وأبهرتنى صياغة الخطاب وما كان فيه من شجاعة الطرح.
كان الخطاب من أعظم الخطب السياسية فى القرن العشرين حيث قال ما نصه «لقد كان بيننا وبينكم جدار ضخم مرتفع، حاولتم أن تبنوه على مدى ربع قرن من الزمان، ولكنه تحطم فى 1973. كان جدارا من التخويف بالقوة... يهدد دائما بالذراع الطويلة القادرة على الوصول لأى موقع وأى بعد... وعلينا أن نعترف معا بأن هذا الجدار قد وقع وتحطم فى عام 1973، ولكن بقى جدار آخر يشكل حاجزا نفسيا معقدا بيننا وبينكم، حاجزا من الشكوك، حاجزا من النفور، حاجزا من خشية الخداع... إننى أسألكم اليوم، بزيارتى لكم، لماذا لا نمد أيادينا، بصدق وإيمان وإخلاص، لكى نحطم هذا الحاجز معا؟»!. كان الخطاب يخلق أولا أرضية مشتركة من الألم عبر حروب متصلة سابقة، ولا ينبغى للجيل الحالى أن يساهم فى استمرارها. وثانيها أن الأرضية المشتركة من ثقافة مستمدة من التراثين العربى والعبرى فقد اقتطف من الأنبياء سليمان وداود، والعلاقة القائمة بين الديانات «الإبراهيمية» واختتم الخطاب: اللهم إننى أردد مع زكريا قوله: «أحبوا الحق والسلام».
واستلهم آيات الله حين قال: «قُلْ آمنَّا باللهِّ ومَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزلَ عَلَى إِّبْراهِّيمَ وإسماعيل وإسْحَقَ وَيَعْقُوب َ والأَسْبَاطِّ وَ مَا أُوتِّى مُوسَى وَعِّيسَى والنَّبِّيُّونَ مِّن رَّبِّهِّمْ لاَ نُفَرقُ بَيْنَ أَحَدٍّ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِّمُون». وثالثا كان الخطاب يغير تماما «البيئة التفاوضية» لكى تخلق طاقة ضوء فى نهاية النفق المظلم للصراع العربى الإسرائيلى، وفرصة للقضية الفلسطينية لكى تستقر على مقر يجعل حل الدولتين المطروح منذ قرار التقسيم ممكنا.
إذا كانت المبادرة السياسية للرئيس السادات قد خلقت استجابة إيجابية فى العالم كله فإنها خلقت انفجارا بين العرب فى الشرق الأوسط، والعرب فى مدينة ديكالب أيضا. كان طبيعيا أن تهز المبادرة الساداتية الجامعات الأمريكية، وباتت ندوات الحديث عن السلام ذائعة، ووجدت نفسى مدعوا للحديث باعتبارى دارسا للعلوم السياسية، فضلا عن قدومى من مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية الذى كان من أهم المراكز التى اهتمت بالصراع، وأضافت للتعامل معه دراسات بحثية عميقة. وبينما كنت أحاول استيعاب الموقف الجديد بعد الخطاب، وأعبر عما يتعرض له من صعاب فى التطبيق، وجدت حالة عنيفة من الزملاء العرب الذين كانوا حريصين على الدفع بأننى لا أمثل العرب، وهو أمر لا أدعيه ولا كان هناك أحد يطلبه داخل جامعة أكاديمية وليس ساحة من ساحات الأمم المتحدة. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أسمع فيها بتهمة «التطبيع» حيث كان من المشاركين فى الندوات يهود أمريكيون جميعهم من هيئة التدريس فى الجامعة، وكنت طالب الدكتوراه الوحيد المشارك. كان الأمر مدهشا أن عرب ديكالب لا يعرفون معنى ندوة فى جامعة كبيرة تهتم بالكثير من العلوم والآداب، ولا يهم أفرادها إلا فهم ما يحدث من أطراف مختلفة على استعداد لإبداء رأى منطقى ومقبول للعقل. كان فى الأمر بعض من الهمجية، ولكن أشد ما آلمنى كان نوعا من التعريض بمصر ورئيسها لم نكن نسمعه من قبل. كانت الواقعة مؤلمة، ولكن ما زادها ألما أننى ذات صباح استيقظت على اغتيال الرئيس السادات!.