أعلنت الصين والسعودية وإيران، في بيان ثلاثي، يوم 10 مارس 2023، الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهرين، حيث كانت العلاقات قد انقطعت بين البلدين في عام 2016، عندما هاجم متظاهرون البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران. وجاء هذا الاتفاق بعد مباحثات جرت بين وفدي السعودية وإيران في بكين خلال الفترة من 6 إلى 10 مارس 2023، ليُمثل تحولًا جديداً في المنطقة، ويطرح في الوقت ذاته العديد من الدلالات عن نجاح هذه الوساطة الصينية.
مدخل لفهم الصين:
القضية الرئيسية للنظر إلى الصين هي أن بكين والرئيس شي جين بينغ لهما رؤية مختلفة للعالم وإدارة العلاقات الدولية فيه عما كان سائداً من قبل. فالحقيقة الأولى في هذا المجال أن الصين قد أصبحت قوة اقتصادية عظمى في العالم تصل سلعها وبضائعها إلى كل أركان الأرض مثلما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع هذه القوة يوجد تقدم صناعي وتكنولوجي يجعل الناتج المحلي الإجمالي للصين يقترب اسمياً من نظيره الأمريكي ويتفوق عليه إذا ما احتُسب استناداً إلى القوة الشرائية للدولار.
أما الحقيقة الثانية فهي أن الصين لها رؤية مختلفة للعلاقات الدولية ولظاهرة العولمة فيها. فبكين تصل إلى أرجاء العالم بسلع وبضائع وتكنولوجيات تقاوم الفقر وتتجه نحو النمو، وتقدم للعالم نموذجاً للكفاءة والإنجاز. والفارق بالنسبة للعالم العربي ودول العالم النامية، أن الصين لا تحمل على أكتافها نظريات تبشيرية مثل تلك التي تحملها الولايات المتحدة عن «صراع الحضارات» أو «الديمقراطية في مواجهة السلطوية»، وإنما تقدم للعالم نموذجاً لمن يريد أن يأتي ليتعلم ويرى.
والصين لها وجهة نظر في ضرورة مراجعة النظام الدولي الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة وأدى إلى العولمة وهيمنة الولايات المتحدة وعملتها الدولارية، وعبّرت عن ذلك في بيان خاص مع روسيا في 4 فبراير 2022. ولدى بكين طريقتها الخاصة في تكييف المواقف المختلفة، بحيث لا ترى فيها الفائدة فقط، وإنما ترى أيضاً ما فيها من فرص. وهذا المفتاح يقودنا إلى فهم لماذا صبرت الصين كثيراً على ابتعاد قطع لا يخالف أحد أنها جزء من أراضيها مثل هونغ كونغ ومكاو وتايوان، وكلها أجزاء من «صين واحدة»، ومع ذلك لم تخض الصين حرباً من أجل هذه الأجزاء السليبة.
مبادرة لتسوية الأزمة الأوكرانية:
الصين بالرغم من ظاهرها الذي يبدو واقفاً في المعسكر الروسي ضد الغرب، فإنه في الحقيقة يعكس موقفاً معقداً بأكثر مما يتصور الكثيرون. فمن ناحية، وقفت الصين مع روسيا في الحاجة إلى مراجعة النظام الدولي، الذي تشكل بعد انتهاء الحرب الباردة. وأكثر من ذلك، فإن بكين كانت متفهمة ومساندة للموقف الروسي الرافض لتوسعات حلف شمال الأطلسي في اتجاه أوكرانيا أو أي اتجاهات أخرى. ومع ذلك، فإن بكين، من ناحية أخرى، دأبت على الامتناع عن التصويت في المحافل الدولية المختلفة، فضلاً عن قيامها بتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا، ورفضها من حيث المبدأ التدخل العسكري الروسي في الأراضي الأوكرانية وضم موسكو من قبل لشبه جزيرة القرم، ثم إقليم الدونباس في الحرب الحالية.
وبالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، طرحت الصين مبادرتها لتسوية هذه الأزمة. فالرئيس شي جين بينغ طرح ثلاث ملاحظات حول أوكرانيا؛ وهي أن الصراعات والحروب لا تنتج أي فائز، ولا يوجد حل بسيط لقضية معقدة، ويجب تجنب المواجهة بين الدول الكبرى. وشكلت هذه الملاحظات الإطار العام للمبادرة التي طرحتها بكين للتعامل مع الحرب الأوكرانية.
توافق مع الرياض وطهران:
عندما صدر إعلان العُلا عن قمة مجلس التعاون الخليجي في 5 يناير 2021، تضمن الدعوة إلى التهدئة وتخفيف حدة التوتر في النزاعات الإقليمية. ونتج عن هذا الإعلان، وبوساطة عراقية، الحوار بين الرياض وطهران، وبعد ذلك دخلت سلطنة عُمان إلى دائرة هذا الحوار لكي تصل به إلى أزمة اليمن. وعلى مدى عامين وبالرغم من الجهد الدبلوماسي الفائق، فإنه – حسب ما صُرح به وقتها – لم يقد الحوار السعودي الإيراني، بوساطة إقليمية، إلى شيء. والحقيقة أن ذلك لم يكن دقيقاً، فأحياناً قد لا تنجح المفاوضات، ولكنها على الأقل تضع جدولاً بالقضايا المُختلف عليها، ورؤية كل طرف لها.
وهنا جاءت اليد الصينية في لحظة ممتلئة بإثارات الحرب الأوكرانية، ومعها مبادرة السلام التي لا يوجد غيرها على طاولة العالم السياسية. وقبل نحو 3 شهور وخلال ثلاث قمم عُقدت بالرياض في ديسمبر 2022، كان واضحاً أن الصين والسعودية باتا على وفاق سياسي ومعه مصالح استراتيجية متوافقة قوامها النفط السعودي، والمشاركة في أكبر عملية استثمار إصلاحي عرفتها الجزيرة العربية في التاريخ المعاصر.
إيران هي الأخرى كان لديها توافق مع الصين لا يقل أهمية، حيث تقوم الثانية بإعفاء طهران من آثار العقوبات الأمريكية، فيما تقوم إيران بإمداد بكين بالنفط بعقود ميُسرة مع فرص استثمارية إيرانية. وهذه اللحمة الصينية على الجانبين السعودي والإيراني، سمحت لبكين بإقناع كل طرف أن هناك ما يكفي، وفق الظروف السائدة في العالم، لتحقيق مصالحه الرئيسية وعدد من المنافع، مع دفع أخطار أخرى.
وجاء الإعلان في 10 مارس 2023 عن اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، استجابة لمبادرة من الرئيس شي جين بينغ، وفي إطار دعم الصين لتطوير علاقات حُسن الجوار بين المملكة وطهران، وبناءً على الاتفاق بين الرئيس شي وكل من قيادتي السعودية وإيران بأن تقوم الصين باستضافة ورعاية المباحثات بينهما، رغبة منهما في حل الخلافات من خلال الحوار والدبلوماسية، والتزاماً منهما بمبادئ ومقاصد ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، والمواثيق والأعراف الدولية. وتضمن الاتفاق تأكيد احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأن يعقد وزيرا الخارجية في السعودية وإيران اجتماعاً لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سُبل تعزيز العلاقات بينهما. كما اتفق الطرفان على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني المُوقعة بينهما في عام 2001، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، المُوقعة في عام 1998.
قراءة موقف واشنطن:
يطرح الاتفاق بين الرياض وطهران بشأن استئناف العلاقات بينهما، تساؤلاً حول موقف واشنطن منه. فالسعودية تربطها علاقات وثيقة وتاريخية مع الولايات المتحدة، وبالرغم من أن فجوة حدثت بين البلدين في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، فإن الشهور الأخيرة شهدت جهوداً لتحقيق التقارب بينهما. ومن ناحية أخرى، فإن إيران بكل المعايير الأمريكية تعد خصماً يهدد واشنطن في أكثر من جبهة، أهمها سعيها لامتلاك الأسلحة النووية.
أما الصين (الوسيط) فهي «المنافس الأول» الآن للولايات المتحدة في العلاقات الدولية، وهي التي خطفت الأضواء أخيراً بطرح مبادرة سلام لتسوية الأزمة الأوكرانية. ومن جانبها، أعلنت الولايات المتحدة أنها كانت تعلم بالمفاوضات السعودية الإيرانية، والسعي نحو الاتفاق بينهما بوساطة صينية، بعد أن تم إبلاغها بذلك من قِبل المملكة. وفي هذا الإطار، فإن رد الفعل الأمريكي لم يحمل عداءً ولا خيبة أمل، وإنما حمل أملاً في أن يؤدي هذا الاتفاق إلى حل الأزمة اليمنية. وهنا تظهر الأبعاد الاستراتيجية الأمريكية وأولوياتها في المنطقة.
وفي وقت تدور فيه رحى الحرب مع روسيا على الأرض الأوكرانية، فإنه لا يوجد أحد في واشنطن يريد حرباً أخرى في الشرق الأوسط، وإذا كان ممكناً التخفيف من تهديد أمن السعودية ومنع حرب في جوارها وتأمين البحر الأحمر ومضيق باب المندب، فسوف يكون ذلك «من يمن الطالع». وإذا كانت الولايات المتحدة لا تستطيع توفير التزام أمني تعاقدي للمملكة، أو تقديم تسهيلات نووية لها، فإن الاتفاق مع طهران لن يمنع حرباً فقط، وإنما أيضاً سيتيح فتح نوافذ جديدة لاستئناف المفاوضات حول السلاح النووي الإيراني.
خلاصات رئيسية:
تمثل المبادرة الصينية لاستئناف العلاقات السعودية الإيرانية شكلاً آخر من أشكال «الإقليمية الجديدة» في منطقة الشرق الأوسط، ونتيجة أخرى لبحث المنطقة عن الأمن والاستقرار. وهنا نخلص إلى الملاحظات الآتية:
1- قوة الطرف الوسيط (الصين)، والذي أعلن عن الاتفاق في نفس يوم إعادة انتخاب شي جين بينغ رئيساً للبلاد لولاية ثالثة مدتها 5 سنوات، حيث تتطلب الوساطة الفعالة أيضاً الكثير من العمل الشاق خلف الكواليس، وفهماً عميقاً للقضايا والحساسيات ذات الصلة.
2- ظهور التأثير والفعالية الأكبر للقوة الاقتصادية على نظيرتها العسكرية، فخلال العشرين عاماً الماضية، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاثة حروب؛ الأولى كانت في أفغانستان، والثانية في العراق، والثالثة ضد الإرهاب في عمومه، خاصة ضد تنظيم داعش على الحدود السورية العراقية. أما الصين، فإن لديها طريقة أخرى لإدارة وجودها الدولي، فهي لم تتورط في أي من أزمات الشرق الأوسط، وهي شحيحة الأقوال وكثيرة الحرص في تحركاتها الدبلوماسية التي وإن كثرت أخيراً فإنها لا تفضي للكثير، والذي لا يبقى منه إلا ما هو اقتصادي.
3- تأثير الصين المتزايد في المسرح العالمي، ويعد البيان الثلاثي للصين والسعودية وإيران دليلاً واضحاً على أن الدبلوماسية الصينية السلمية بدأت في ممارسة نفوذها في العالم، ودليلاً كذلك على تحول بكين إلى قوة دبلوماسية ناعمة.
4- إحياء المفاوضات النووية، فقد تكون محصلة الدبلوماسية الصينية فتح الأبواب مرة أخرى لاستئناف المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة.