بقلم - عبد المنعم سعيد
فى صباح يوم الأربعاء الماضى ٢٧ ديسمبر المنصرم، كان العنوان الرئيسى لصحيفة الأهرام الغراء هو «القطاع الخاص قاطرة التعافى الاقتصادى فى ٢٠٢٤». تفاصيل «المانشيت» لم تذكر شيئًا عن الكيفية التى سوف يقوم بها القطاع الخاص بقيادة قاطرة التعافى فى العام الجديد؛ ولا شيئًا عن السبب الذى جعل القطاع يتأخر خلال السنوات الماضية عن القيام بهذه المهمة النبيلة. وعلى العكس فإن تفاصيل الخبر نقلت عن معالى الدكتور محمد معيط، وزير المالية، أن الاقتصاد المصرى أبدى تماسكًا أمام الأزمات العالمية، وأن الدولة بصدد إنفاق ٥٣٠ مليار جنيه للدعم، و٣٩٧ للصحة، و٥٩١.٩ للتعليم؛ وفى العموم فإن الاقتصاد المصرى بات جاهزًا لكى يقوم بفتح أبوابه للقطاع الخاص والاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية. لم يَرِدْ فى الموضوع ما يشير إلى هيئة أو مؤسسة لها علاقة بالقطاع الخاص، مثل اتحاد الصناعات والغرف التجارية وجمعيات الأعمال والشركات المصرية الكبرى عن استعدادها للقيام بما نجم عن جولات الحوار الوطنى والاقتصادى خلال عام ٢٠٢٣ من ضرورة الدور الذى يقوم به القطاع الخاص لكى يأخذ الاقتصاد المصرى بعيدًا عن أزمته الحالية إلى آفاق استئناف معدلات النمو العالية وعودة العملة المصرية إلى المكانة التى تستحقها. والثابت، طبقًا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أن القطاع الخاص يمثل نحو ٩٩٪ من المنشآت الاقتصادية المصرية، و٨٤.٥٪ من قيمة الإنتاج التام المقدر بنحو ٣.٩ تريليون جنيه، و٧٤٪ من إجمالى الأجور، وقدرها ٣٦٠ مليار جنيه. ورغم ما تشير إليه هذه الأرقام من مشاركة أساسية فى الاقتصاد الوطنى، فإن موقع القطاع الخاص لا تبدو عليه هذه الفاعلية، التى تسمح له بأن يكون قاطرة التعافى المرجوة نتيجة المناخ الاقتصادى العام فى مصر، الذى يقوم على نظرة سلبية و«غير طبيعية» لما قام به ويقوم به هذا القطاع ويمكنه أن يقوم به.
التجربة التاريخية لدول نامية، أو كانت كذلك، مثل الصين وكوريا والهند مؤخرًا، رتبت شؤون تعافيها والقاطرة التى تقود نموها الاقتصادى المتسارع على دور فيه الكثير من الاعتراف والدعم والتحفيز للقطاع الخاص المحلى والأجنبى لتوفير أكبر قدر ممكن من الاستثمارات، التى تنقل الاقتصاد الوطنى من حال إلى حال آخر أفضل وأرقى. فى هذه التجارب بات ذلك هو «طبيعة» الأشياء والنظم، التى تُقام بحيث تكون الشريحة الاستثمارية فى الاقتصاد الوطنى جزءًا مهمًّا من النسيج الاجتماعى والأخلاقى فى المجتمع. وللأسف، ولأسباب كثيرة يطول شرحها، فإن تحقيق ذلك فى مصر جزء من الحالة «غير الطبيعية»، التى عاشتها مصر استثناء من الدول التى كان لها نصيب وحظ من الثروة العالمية وتقدمها. ولسنوات طويلة، ناديت بأن تكون مصر دولة طبيعية، وكان معنى ذلك: أولًا أن تنبذ الدولة كل ما هو استثنائى، وكل ما هو مخصوص ونتصور أنه لا يناسب أحدًا إلا المصريين. وثانيًا أن تكون الدولة جزءًا من عصرها بما فيه من تكنولوجيا، وما فيه من تقاليد وأعراف تحدد ما يجوز وما لا يجوز. ببساطة ألّا تكون دولتنا غريبة بين الدول، حيث كانت لدينا أمور عجيبة حددتها وتمسكت بها أزمان أشد عجبًا. واحد من أمور العجب كان ما نص عليه الدستور المصرى بأن يشغل ٥٠٪ على الأقل من المجالس المنتخبة عمال وفلاحون؛ ولم يشفع أبدًا أنه لم يتفق أحد على تعريف مَن هو «العامل أو الفلاح»؛ كل ما حدث أن المشرعين تواضعوا على أن عمال مصر وفلاحيها يشكلون الأغلبية التى عانت كثيرًا فى العهود البائدة الاستعمارية. لم يهتم أحد بأن جميع المصريين عانوا من هذه الفترات الصعبة، ولم يَرِدْ فى بال أحد أن العمال ليسوا أغلبية وأن العاملين فى مجال التجارة والخدمات أكثر عددًا، وفى قلب الموضوع فإن أحدًا لم يبرهن على أن العمال والفلاحين سوف يكونون دون غيرهم أكثر قدرة على التشريع المناسب للأمة. لم يكن ذلك الموضوع وحده هو «غير الطبيعى»، الذى لم يكن له مثيل بين دول العالم الأخرى؛ فقد كان ولا يزال نظام «الثانوية العامة» من النظم الاستثنائية، التى تخلت عنها معظم دول العالم المعاصر. «العملة المصرية»، ولأزمنة طويلة، لم يكن يتم تحديد ثمنها وفقًا لحركة عرض وطلب العملات الدولية، وإنما وفق سعر كانت تحدده الدولة، وفى أحيان كانت تضع له عدة أسعار، فواحد منها من البنك المركزى، وواحد آخر كانت تحدده السوق السوداء، وواحد ثالث خاص بالاستيراد، ورابع للتصدير، وخامس لحاملى بطاقات الائتمان، وسادس للمسافرين إلى الخارج، وسابع للعائدين منه. الخلاصة أنه كان هناك الكثير مما هو غير طبيعى واستثنائى، وظلت دعوتى قائمة لكى تكون «مصر دولة طبيعية»، وهو ما كان عنوان كتاب صدر فى عام ٢٠١١ (القاهرة: نهضة مصر، مصر دولة طبيعية: السياسة والاقتصاد والعمران).
بعد ما يقرب من عشرين عامًا من هذه الدعوة، بدأت مصر فى دخول مسار الدول الطبيعية، فلم تعد تجرى الانتخابات فيها على أساس قاعدة «العمال والفلاحين» السابقة، ولا صار نظام الثانوية العامة كما كان، وإن كان لا يزال يحتاج المزيد، وفى أوقات أصبح لعملتها سعر واحد يصعد ويهبط حسب العرض والطلب، وأمور أخرى كثيرة. ولكن فى أوقات أخرى أصبح ما هو «طبيعى» عزيزًا، رغم أننا أصبحنا أكثر استعدادًا عما كان عليه الحال من قبل فيما يتعلق بالبنية الأساسية والمشروعات العملاقة الجاذبة والتغيرات الكبيرة التى جرت فى مصر، من أول اتساع السوق الاقتصادية فى عمومها وحتى مضاعفة المساحة المعمورة فى مصر عما كانت عليه من قبل. وحتى يمكن للقطاع الخاص أن يكون قاطرة «التعافى الاقتصادى» فى ٢٠٢٤ فإن هذا الأخير يستوجب أولًا: تغيرًا جوهريًّا فى الميزان التجارى المصرى، من خلال الدفع بالقطاعات الإنتاجية الرئيسية، من زراعة وصناعة وخدمات وسياحة، وباختصار زيادة الموارد الوطنية، وفى الوقت الحالى فإن هناك مؤشرات إيجابية لجذب القطاع الخاص المحلى والاستثمارات الأجنبية فى المنطقة الاقتصادية الواعدة لقناة السويس؛ والعاصمة الإدارية؛ ولكن ما هو متاح أكثر من ذلك. وثانيًا دفعه إلى التنافس الاقتصادى على مستوى الشركات والمحليات المختلفة، من خلال مكافأة للأعلى إنتاجية، والأكثر تصديرًا، والجاذب للسائح ورأس المال الأجنبى، والأكثر تشغيلًا ودفعًا للضرائب. وثالثًا أن القطاع الخاص، على عكس القطاع العام، له وجه إنسانى، فلا تُعرف شركات مبدعة، مثل أبل ومايكروسوفت وأمازون، بدون «ستيف جوبز» و«بيل جيتس» و«جيف بيزوس». ورابعًا أن نؤسس لقطاع خاص متجدد الأجيال المبدعة للعمل فى ظل التكنولوجيات الجديدة للإبداع والريادة فى استغلال الثروات المصرية، خاصة تلك التى قامت الدولة بالفعل بالتحضير لها، مثل الصوب الزراعية والمزارع السمكية ومحطات الخدمات المختلفة. الجمهورية الجديدة تتطلب دولة طبيعية لا تعرف الاستثنائية ولا الظروف الخاصة التى لا تعرفها دول أخرى