بقلم - عبد المنعم سعيد
الفكرة الذائعة في العالم عن الشرق الأوسط لفترة طويلة هي أنه تلك المنطقة من العالم التي توجد بها صحراء شاسعة جدباء وموحشة، يعيش فيها أناس غلاظ القلب والمشاعر، ولولا أن البترول تصادف وجوده تحت أراضيهم لما عرفوا ذلك الغنى والبذخ الذي يظهر منهم. هناك ما هو أكثر من ذلك؛ فقبل سنوات فإن عالِم السياسة المصري بهجت قرني لخّص معالم المعرفة عن العالم العربي والشرق الأوسط في الغرب، فيما سماه سداسية الباء باللغة الإنجليزية، أو «6Bs»؛ فبات أهلنا في المنطقة يقعون بين صفات «الإرهابي» قاذف القنابل (Bomber)، و«الراقصة الشرقية» (Billy Dancer)، و«الملياردير» (Billionaire)، و«السمسار» (Bazar man)، و«البدوي» (Bedouin).
كانت الصورة سلبية في معظمها، ويضاف لها عادة حزمة كبيرة من أشكال العنف تجاه الآخر، وخاصة المرأة وأصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، مع الكثير مما يسمى «الاستبداد الشرقي». ورغم أن الديانات السماوية الثلاث - اليهودية والمسيحية والإسلام - جاءت من الشرق الأوسط، فإن الإدراك العام لها ظل في دائرة «الاستثناء» الذي جاء بصدفة تاريخية هبطت على قوم ظالمين.
شكّل ذلك ما هو معلوم في علم الاجتماع السياسي بالصورة القومية التي في عمومها سلبية، ولا يوجد فيها ما يعرفه العرب عن أنفسهم من صفات الكرم والشهامة ونجدة الغريب، والتعامل الشجاع مع بيئة صعبة. الصراع العربي الإسرائيلي لعب دوراً كبيراً في تشكيل هذه الصورة التاريخية. كانت هناك لحظات بالطبع أعيد فيها التقييم؛ في أثناء حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وعندما قام الرئيس السادات بزيارة القدس في مبادرة سلام تاريخية، وعندما طرحت المملكة العربية السعودية المبادرة العربية للسلام. وعندما حل ما سُمي «الربيع العربي» قبل أكثر من عَقد من الزمان؛ ظهر العرب في الغرب كما لو كانوا وُلدوا من جديد، وعلى استعداد لاتباع خطوات «العولمة» و«الحداثة» و«التقدم». وعندما انتكس «الربيع» وذاع من تحت أجنحته الفوضى والحروب الأهلية وأشكال التطرف الديني؛ لم يكن هناك من تعليق إلا أن شعوب المنطقة تعود إلى أصولها مرة أخرى!
ما كان يجري بالفعل في منطقة الشرق الأوسط أخذ ثلاثة أشكال: الفوضى المستدامة، والحرب الأهلية، وتيار الإصلاح. هذا الأخير نما في مصر والسعودية والأردن والمغرب والبحرين والكويت وعُمان. وللحق فإن دولة الإمارات العربية المتحدة وتعبيراتها في أبوظبي ودبي، كانت قد سبقت في تنفيذ ما سُمي في الدولة «الوصايا العشر» التي شملت التسامح، والقبول بالتنوع، والبناء في المستقبل، والاعتزاز بقدرات الشباب، والأخوة الإنسانية. هذه المجموعة من الدول جمعتها فكرة «الدولة الوطنية» التي هي حق لمواطنيها كافة من دون تفرقة أو تمييز، وهي الساعية بقوة لكي تلحق بركب التقدم العالمي، ليس بالنقل من التجارب الغربية في القيم والتكنولوجيا، بل بالبحث عن الحكمة أينما وُجدت شرقاً وغرباً. وربما كان أكثر الأمثلة قرباً تجربة دول شرق وجنوب شرقي آسيا؛ إذ نجحت الأمم في تحقيق إنجازات رائعة خلال بضعة عقود من السعي والاجتهاد.
وانطلاقاً من كل ذلك، ذاعت الفكرة القائلة إن الدول العربية ليس عليها أن تتقدم من خلال سلالم الثورات الصناعية السابقة، بل أن تذهب مباشرة إلى الثورات التكنولوجية الراهنة، ويقع في المقدمة منها ما يخص دول المنطقة من احتياجات للسكن والغذاء.
وكأن المنطقة كانت على موعد مع القدر؛ إذ تبلور في العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، ومنذ انعقاد «قمة الأرض» في مطلع تسعينات القرن الماضي، والاهتمام بالمناخ وتغيراته القاسية مستمر، وهو الذي في النهاية رست سفنه على الأرض المصرية في شرم الشيخ مع انعقاد مؤتمر «كوب 27»، وفي العام القادم سوف تستضيف دبي «كوب 28». هذا التوالي عكس أمرين: أولهما الاهتمام العربي بالتطورات الصعبة التي يعاني منها مناخ كوكب الأرض، وثانيهما أن التعامل مع أزمة المناخ هو بدوره فرصة لإنتاج تكنولوجيات «خضراء» تنقذ البلاد والعباد، وفي نفس الوقت تحل معضلات كبرى للإنسانية لم يعد ممكناً التعامل معها من خلال تكنولوجيات الثورات الصناعية الأولى والثانية، وحتى الثالثة. وفي الحقيقة، فإن العالم العربي جاء على موعد مع الثورتين الرابعة والخامسة، لكي يحل محل اللون الأصفر الذائع للصحراوات العربية، اللون الأخضر العاكس لتنمية زراعية مذهلة.
ولا يوجد ما يمثل تلك الثورة الخضراء في المنطقة قدر المبادرة الإصلاحية واسعة النطاق التي دشنها في الرياض الأمير محمد بن سلمان آل سعود، ولي العهد السعودي، تحت عنوان «الشرق الأوسط الأخضر» في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2021، من خلال مؤتمر للقمة حضره قادة المنطقة. وفي مؤتمر شرم الشيخ كان جناح المملكة في المنطقة «الزرقاء» متميزاً في عرض المبادرة لكي يشاهدها العالم، وخارج المؤتمر ذاته أقامت المملكة معرضاً كبيراً يشرح ويوضح ويعرض ما حققته المبادرة على أرض الواقع. وفي يوم الاثنين 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، وبرئاسة مشتركة بين الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، انطلقت «النسخة الثانية» من قمة مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» في مدينة شرم الشيخ، بالتزامن مع انعقاد قمة قادة العالم في مؤتمر الأمم المتحدة المعنيّ بتغيّر المناخ (كوب 27)، وسط مشاركة واسعة من كبار القادة في العالم، بما في ذلك رؤساء الدول والحكومات من مجلس التعاون الخليجي، ومنطقة الشرق الأوسط، ودول المشرق العربي، وأفريقيا.
وأتاحت القمة إجراء أول حوار إقليمي من نوعه بشأن المناخ؛ إذ قدمت مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» خريطة طريق طَموحة وواضحة للعمل المناخي الإقليمي، مما يضمن تنسيق الجهود واتباع نهج موحّد لمواجهة تبعات تغير المناخ على دول المنطقة. وتُمكّن المبادرة من إيجاد فرص اقتصادية ضخمة في المنطقة، بما يساهم في تعزيز التنمية المستدامة، ودفع عجلة التنويع الاقتصادي، وتوفير فرص العمل، وتحفيز استثمارات القطاع الخاص في عموم المنطقة، مما يعود بالنفع على الأجيال المقبلة، ويفتح الآفاق أمام المستقبل الأخضر.
وتسعى الدول المشاركة في قمة مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر 2022» إلى تحقيق المستهدفات الإقليمية التي دعت إليها المملكة في القمة الافتتاحية للمبادرة، والمتمثلة في تقليل الانبعاثات الكربونية في المنطقة بأكثر من 10 في المائة من الإسهامات العالمية، وزراعة 50 مليار شجرة في المنطقة وفق برنامج يُعد أكبر البرامج لزراعة الأشجار في العالم. مثل هذه الأرقام غير مسبوقة في تاريخ المنطقة. وفي الواقع، فإنها تجري في صيغ مختلفة في دول الإصلاح العربي عامة؛ إذ يتم استغلال التكنولوجيات الجديدة في توليد الطاقة الشمسية، وتحلية المياه، وإنتاج الهيدروجين الأخضر، وبناء مدن ذكية وخضراء كانت في أزهى حللها في مدينة شرم الشيخ، والمدن الجديدة مثل العلمين في مصر، ونيوم في السعودية، حيث ستكون المدينة العابرة من آسيا عبر مضيق العقبة إلى سيناء بمصر في غرب الخليج.
مستقبل العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط يقوم بريادته الآن دول الإصلاح، بحيث يكون اللون الأخضر هو عنوان هذه المرحلة من التاريخ العربي.