بقلم - عبد المنعم سعيد
لا أدرى كيف سيكون حال الصراع فى قطاع غزة وقت نشر هذا المقال، حيث تجرى تفاعلات متعاكسة فى نفس الوقت ما بين البحث الدؤوب عن «هدنة» تتيح وقتًا لمزيد من الجهد للوصول إلى السلام أو التسوية، سمِّها ما شئت، أو تجرى عمليات للتصعيد فى جبهات متعددة، هى باختصار حرب إقليمية واسعة النطاق. سوف نأتى لتفاصيل ذلك بعد قليل، ولكن اختصارها معلوم فى الأدب الإنسانى عندما نشرت مسرحية صمويل بيكيت «فى انتظار جودو»، التى عُرضت منذ عام ١٩٥٣ فى مسارح أوروبية عديدة. وربما كان جزء من شهرة العمل أنه كان موضوعًا لتفسيرات عديدة بين مدارس فكرية وفلسفية متنوعة لأنها تدور بين شخصين «فلاديمير» و«استراجون» التقيا على انتظار «جودو»، الذى لا يأتى أبدًا.
هناك دومًا شىء ما مفقود ينتظره الإنسان، أو البشر جميعهم، لكى يُخلصهم مما هم فيه، ولكن الغياب المستمر يجعل البحث عن «المنتظر» داخليًّا فى الذات، التى هى الأخرى غامضة وموحشة، ولا تقل تعقيدًا عن ذلك الخارج. العجيب أن المعرفة بالقادم لا تجعل المسألة أكثر سهولة وأقل تعقيدًا. السويسرى فريدريش دورينمات جعل نقطة البداية فى «الزيارة» (١٩٥٦) ليس انتظار الغائب، بل حضوره إلى مدينة «جولين»، المحرومة والفقيرة، فى شكل سيدة عجوز لديها من الأموال الكثير التى ترغب فى إنفاقها لإخراج المدينة من عثرتها، وأهلها من فقرهم، إذا ما قاموا بقتل حبيبها السابق، الذى اغتصبها فى صغرها. المأساة الإنسانية هكذا تكتمل حلقتها عندما يكون الحضور لا يقل تعقيدًا عن الغياب؛ ويصبح قول «النفرى» إن «تمام الظهور لابد من غياب» موضوعًا للتساؤل.
ولكن «جودو» ليس بالضرورة بشرًا يحل عقدة مدينة تبحث عن المخلص أو تنتظر العقاب على ذنوب ومعاصٍ؛ «جودو» يمكن أن يكون حالة طال دوامها، وراحت قوى كثيرة مجهولة وملموسة تهدد بالحرب والدمار، وقوى أخرى تبذل جهودًا فوق الطاقة من أجل التوصل إلى تسويات وبناء يعين البشر على السلام، ومَن يعرف، ربما السعادة أيضًا. الحقيقة هى أنه وقت كتابة هذا المقال كانت الجهود التى تبذلها مصر وقطر والولايات المتحدة من أجل التوصل إلى هدنة فى حرب غزة الخامسة قد وصلت إلى مراحلها الأخيرة.
فى الواقع أن إسرائيل قدمت إنذارًا بأن جولتها البرية العسكرية سوف تُستأنف فى إقليم رفح جنوب قطاع غزة مع مطلع شهر رمضان المعظم. الإنذار المحدد بسقف زمنى هو أخطر أنواع الإنذارات هو Ultimatum لأنه وقت التنفيذ يمكن توقع فتح كل أبواب جهنم. وفى نفس الوقت، الذى كانت فيه المحاولات جارية، والوفود بين أجهزة المخابرات والاتصالات بين القادة تذهب وتجىء؛ فإن جبهات عدة أخذت فى الالتهاب بالتصعيد القائم على ارتفاع حجم الحشود العسكرية، والقيام بعمليات الاغتيال لقادة عبر الحدود، والاشتباك المباشر فى أكثر من جبهة على حدود إسرائيل مع الضفة الغربية ولبنان وسوريا، وعبر العراق إلى سوريا والأردن؛ وأخيرًا وليس آخرًا، تهديد الملاحة والتجارة الدولية فى البحر الأحمر.
«جودو» سواء كان سلامًا أو حربًا يسفر عن نفسه تدريجيًّا فى اتجاه حرب دولية وصل فيها الخبراء العسكريون من إيران إلى ساحة إطلاق الصواريخ الحوثية؛ وتصاعدت عمليات الحشد البحرى الأمريكية والأوروبية فى البحر الأحمر. يجرى كل ذلك، بينما العمليات العسكرية الإسرائيلية تجرى فى غزة بوحشية، لا يردعها محكمة العدل الدولية، ولا البحث عن قرار فى مجلس الأمن.
حتى وقت نشر هذا المقال، ظل هناك نوع من الانضباط العسكرى على كل الجبهات؛ لم تعد الحرب سافرة عن وجه إيران، ولا وجه الولايات المتحدة فى مواجهة تُخلع فيها القفازات وتُرفع الأقنعة. المسموح به هو التصعيد الشفهى المصرح به للشيخ حسن نصرالله فى لبنان، وقادة حماس فى فلسطين، والمتحدث الرسمى باسم القوات الحوثية فى اليمن؛ وما تقرر عسكريًّا، حيث لا تحدث المواجهة المباشرة بين طهران وواشنطن. إيران تحاول الموازنة ما بين عصر التهدئة، الذى وُلد قبل شهور قليلة بينها وبين دول عربية عديدة؛ وحتى الولايات المتحدة بعد صفقة الأسرى مليارية الدولارات؛ وبين المضى قدمًا فى مواجهة مع الدولة العبرية، قبل أن تقوم الأخيرة بما تتوقعه من هجوم على قدراتها النووية. واشنطن من ناحيتها توازن ما بين تقديم حد من الردع يكفى لمنع توسيع نطاق الحرب؛ ومَن يعلم، فربما تكون الهدنة سبيلًا إلى تسوية أكبر للصراع الفلسطينى الإسرائيلى على أساس حل الدولتين. فى خلفية الصورة توجد العقدة الكبرى، التى يمثلها حضور «جودو» المضطرب بين القدوم والغياب؛ وهى أن تحقيق السلام على الصورة الموضحة كان هو السبب الرئيسى لنشوب الحرب لكى تفسد فرصة تسوية فلسطينية إسرائيلية على أكتاف سلام عربى إسرائيلى شامل. جودو يقع بين شقى رحى «الردع»، الذى يأتى من تكلفة الحرب وأهوالها؛ وإغراء وضغط القوى الدينية الأصولية على الجانبين العبرى والعربى فى تحقيق انتصار شامل يكفل الاستيلاء على كامل التراب الفلسطينى بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
مصر وسط هذه المعضلة «الوجودية» تبذل جهودًا مضنية لتجنب اتساع الحرب؛ وفى الحقيقة فإنها بذلت محاولات عدة خلال الأسابيع الأخيرة من أجل تقريب وجهات النظر بين حماس وإسرائيل. هى الدولة التى لم توقف قط الدفاع عن القضية الفلسطينية؛ وهى الدولة التى بدأت مبكرًا السلام مع إسرائيل؛ وهذا وذاك يترجمهما واقع الجغرافيا بين مصر وإسرائيل وفلسطين. تقف مصر فى انتظار «جودو» لأنها مهددة فى اللحظة الراهنة فى أكثر من جبهة؛ جبهتها الداخلية، حيث تتعرض خططها التنموية للضرر وقت أزمة اقتصادية تحملت الكثير من أزمات خارجية؛ وفى جبهتها الخارجية توجد التزاماتها القومية تجاه الشعب الفلسطينى؛ ومواجهة السعى الإسرائيلى بالسلاح للتهجير القسرى للفلسطينيين كما يريد المتطرفون الصهاينة؛ بينما تقوم قبائل الحوثى بتهديد الملاحة والتجارة إلى مصر وتعطيل عمل قناة السويس. التقدير والشكر واجبان للقيادة المصرية فى إدارتها لعمليات بالغة التعقيد والتركيب؛ وما لم تكن الهدنة الجديدة قد عُقدت وأتاحت أسابيع من الهدوء النسبى بعدها يكفل لطوابير ناقلات الإغاثة النفاذ إلى داخل غزة؛ فربما يكون الأوان قد آن لكى تسعى مصر لمشاركة الدول العربية التى أقامت سلامًا مع إسرائيل، وتلك التى كانت تتوجه إلى حل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى لكى تقوم على استراتيجية تنظر فى المستقبل غير المباشر بانفراجة، لعل النقطة الأولى فيها هى المصارحة الكاملة مع إسرائيل- شعبًا وحكومة- بأنها لا تستطيع أن تجمع ما بين السلام والوحشية فى نفس الوقت؛ ومع المنطقة العربية كلها بأنه لا يمكن لدول المنطقة أن تحقق التنمية والازدهار، بينما تُسلم نفسها إلى ميليشيات تهدد سيادة الدول، وتجرها إلى صراعات إقليمية وعالمية فى نفس الوقت. هى معادلة جديدة وضرورية للدول العربية فى عصرها الحالى، ولا تقل تعقيدًا عن معادلة «جودو» الراهنة!.