مصر والأزمات الدولية

مصر والأزمات الدولية

المغرب اليوم -

مصر والأزمات الدولية

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

في كلتا الحالتين كان الطرح غامضًا، والسؤال ملتبسًا، فقبل عهد الثورات والربيع المزعوم، كانت الإشارة أشبه بغمز العيون ودهشة الحاجب المرفوع عما إذا كانت مصر سوف تكون قادرة على اللحاق بالعالم المعاصر أو أنها سوف تستمر على حالها، الذي يبعثر التقدم هنا وهناك دون قدرة ولا عزم على تحقيق اختراق في عالم باتت فيه المنافسة والسرعة أهم قضاياه الجوهرية. نادرًا ما طُرح السؤال عما إذا كانت مصر لديها استعداد لتحمل ثمن التغيير واختراق سحب أحلام بعيدة وجعلها حقيقة.

كان ضرب الأمثلة كثيرًا بالتضحيات التي قدمتها أوروبا أثناء الثورات الصناعية (روايات تشارلز ديكنز مثل «أوليفر تويست» و«ديفيد كوبرفيلد» كانت شائعة بين أبناء جيل ثورة يوليو)، وتلك التي قدمتها اليابان بعد ضربها بالقنابل النووية، وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية الطاحنة وبعد الحرب الكورية الأكثر طحنًا.

والحقيقة أنه لم يسلم بلد تقدم حتى كانت وراءه قصة فيها الكثير من «الدم والعرق والدموع»؛ أما القصة المصرية فكان ماضيها فيه الكثير من التضحيات في الكفاح ضد الاستعمار ومواجهة الصهيونية والإمبريالية، وفى حاضرها بدَت الأحلام قادرة على تحقيق نفسها من خلال عبقرية مصرية خاصة بزعيم أو آخر، أو من خلال وحدة عربية تنضح وحدها بالغنى والتقدم.

السلام مع إسرائيل وضع على طاولة السياسة المصرية دافع المنافسة، فجاءت أفكار حول تنمية محور قناة السويس، وتشكلت جماعة أهلية للتفكير في «التنافسية العالمية». ظل السؤال «كيف» نفعل ذلك وندخل المنافسة دائمًا معلقًا بالكثير من النوايا الطيبة.

ونادرًا ما كانت الأفكار مرتبطة بزمن أو ثمن، وفى وقت جرى الهروب من كلفة البناء في اتجاه ليبرالى كان مفتاحه أن «الديمقراطية» هي البوابة التي تقود إلى الرخاء والثروة وكفى.

بعد نهاية «الربيع» في مشهده الإخوانى وما أعقبه من عنف وإرهاب، فإن مواجهة الأزمة لم تأتِ من الجمهور العام، حيث تقدمت القيادة السياسية والعسكرية بالتضحيات اللازمة لتثبيت أركان الدولة في ناحية، والدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى في ناحية أخرى، والبدء في ناحية ثالثة عملية بناء واسعة النطاق.

ورغم أن «رؤية مصر ٢٠٣٠» مثّلت وثيقة للتغيير لدى القيادة والنخبة الاستراتيجية، فإن تنفيذها قام على تقديم الإنجازات المتوالية على أرض الواقع كما لو كانت نتيجة عصا سحرية قادرة على بعث المدن وإقامة الحياة دونما تفكير أو جهد وعرق. كان مشهد النهاية ممثلًا في المشروع، بينما القصة- والعرق الذي قاد إليه- ظلت مختفية وتبدو من طبيعة الأشياء. فقط في المواسم الرمضانية الأخيرة بدأت قصة مواجهة الإرهاب تأخذ لحمًا ودمًا وأشخاصًا وعائلات وأسرًا توضح أن النصر أتى بعد ثمن كبير جرى دفعه بكرم وشهامة وعلم.

ما حدث بعد ذلك من أول حفر قناة السويس الجديدة وحتى الافتتاح العربى غير الرسمى لمدينة العلمين ظلت فيه القصة غائبة، و«الاختيار» مجهولًا، والثمن مدفوعًا. وعندما حلت «الجائحة» فإن مواجهتها جرَت كما جرت مواجهة الإرهاب، وهى أن نحارب الأزمة ونستمر في التنمية في آن واحد، وكان كافيًا الشعور بالرضا عن حقيقة الاستمرار في تحقيق التنمية رغم البلاء، دونما حضور لقصة وثمن لنجاح.

والآن أصبح العالم يواجه حزمتين من الأزمات، الأولى أزمة كونية تتعلق بالبقاء أو الفناء وتتجلى بوضوح في الأوبئة وظاهرة الاحتباس الحرارى، بينما الأخرى فهى أزمة دولية ديناميكية.

وبعد أكثر من ستة أشهر على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، فإنها لا تزال مستمرة ولا يوجد ما يشير إلى نهايتها. وعادة ما تنتهى الأزمات والحروب بشكل ما، من خلال أولًا: القاعدة العامة، وفيها تنتهى الحروب إلى انتصار طرف بشكل كامل وهزيمة الطرف الآخر، وهو ما حدث في الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية الأمريكية، حيث كان الانتصار كاملًا واستسلام الطرف الآخر راكعًا.

وثانيًا: لا يوجد انتصار أو هزيمة مطلقة، وإنما تؤدى الحرب إلى نوع من التفاوض يعكس توازنات القوى والرغبة في إنهاء الصراع، وهذا يقود إلى ثلاثة عناصر من توازن القوى يقوم على المبادأة وتحمل الاستنزاف والقدرة على الاستمرار في المواجهة.

وفى هذه العناصر يوجد ما يكفى من التوازن: روسيا يوجد في شعبها وأراضيها الشاسعة ما يكفى للصمود في مواجهة المقاطعة الاقتصادية، وتعبئة موارد تكفى لاستمرار القتال؛ وأوكرانيا على الجانب الآخر يوجد ما يكفى من دوافع تاريخية لرفض العودة إلى الأحضان الروسية، والاستمرار في القتال بدعم من العالم الغربى ماديًّا وتكنولوجيًّا واستراتيجيًّا أيضًا.

أصبح للأزمة تأثير على دول العالم، ومنها مصر التي تأثرت بالأزمة في ثلاثة أمور، أولها: أزمة الطاقة، وهى أزمة ذات وجهين، الندرة، المتمثلة في أزمة أسعار الطاقة المرتفعة، والوجه الآخر هو وفرة الدخل للدول المنتجة للنفط (1.3 تريليون دولار مبيعات الدول النفطية). وثانيها أزمة الغذاء، والتى تُعد نقطة حرجة لمصر، خاصة أن الدولتين المتنازعتين هما أكبر مصدرتين للغذاء، وخاصة القمح ومكونات الأسمدة اللازمة للزراعة. وثالثها أزمة سلاسل التوريد، فالصناعة المصرية معتمدة على استيراد المواد، بالإضافة إلى أن هناك عجزًا كبيرًا في الميزان التجارى، ويزيد قدره نتيجة الأزمة الراهنة.

المدهش هو أنه رغم ما حدث خلال الشهور الستة الماضية، وأن هناك إدراكًا عالميًّا بأنها مستمرة ومسببة لكثير من الألم العالمى، فإنه لا يوجد رد فعل جماهيرى عالمى داعٍ إلى وقف الحرب، كما حدث أثناء حروب دولية سابقة مثل حرب فيتنام.

وهنا تحديدًا يمكن لمصر أن تتقدم بدعوة عالمية من خلال منبر الأمم المتحدة خلال اجتماعاتها في شهر سبتمبر الجارى، أو الاتصالات الدبلوماسية مع دول تدفع ثمنًا كبيرًا لحرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، مثل الهند وجنوب إفريقيا ودول أوروبية وآسيوية. مصر لديها أصول وخبرة كافية أخلاقيًّا وسياسيًّا لكى تدعو وتنظم مستغلة في ذلك أنها مقر «حماية الكوكب» ومؤتمر COP 27، الذي لا يمكن تحقيقه دون العودة إلى مائدة التعاون الدولى، الذي تكون فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين أطرافًا أصيلة.

كما يمكن لمصر أن تتجه إلى التعاون الإقليمى للتعويض عن التعامل مع النظام الدولى ككل، فالتعاون الإقليمى الخماسى الذي ظهر في قمة العلمين، وجرى قبله في جدة في قمة تساعية، يشير إلى أن «إقليمية جديدة» تدفع الضرر وتجلب الفائدة. والهدف هنا هو سد الفجوة عن طريق المصادر الإقليمية بغض النظر عن من أين تأتى.

وعلى الصعيد الداخلى يتمثل الاستمرار في عملية التنمية التي تقوم بها الدولة مع تكييفها للتعامل مع نقاط الانكشاف الموجودة، خاصة في مجال جذب العملات الصعبة والتصدير والطاقة والقمح. الأمر أولًا وآخرًا يتطلب استراتيجية تشرح للجمهور المصرى الجهد الجارى، والاختيار اللازم، والتضحيات التي لا يمكن تجنبها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصر والأزمات الدولية مصر والأزمات الدولية



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:41 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
المغرب اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 08:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 09:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها
المغرب اليوم - نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها

GMT 13:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية
المغرب اليوم - خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية

GMT 09:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

تحقيق يكشف عن تقييد "فيسبوك" للصفحات الإخبارية الفلسطينية
المغرب اليوم - تحقيق يكشف عن تقييد

GMT 18:13 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

مشاريع استثمارية تخلق 14500 منصب شغل

GMT 11:12 2023 الأربعاء ,28 حزيران / يونيو

مدينة "ذا لاين" في السعودية قطعة فنية للحالمين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib