في كلتا الحالتين كان الطرح غامضًا، والسؤال ملتبسًا، فقبل عهد الثورات والربيع المزعوم، كانت الإشارة أشبه بغمز العيون ودهشة الحاجب المرفوع عما إذا كانت مصر سوف تكون قادرة على اللحاق بالعالم المعاصر أو أنها سوف تستمر على حالها، الذي يبعثر التقدم هنا وهناك دون قدرة ولا عزم على تحقيق اختراق في عالم باتت فيه المنافسة والسرعة أهم قضاياه الجوهرية. نادرًا ما طُرح السؤال عما إذا كانت مصر لديها استعداد لتحمل ثمن التغيير واختراق سحب أحلام بعيدة وجعلها حقيقة.
كان ضرب الأمثلة كثيرًا بالتضحيات التي قدمتها أوروبا أثناء الثورات الصناعية (روايات تشارلز ديكنز مثل «أوليفر تويست» و«ديفيد كوبرفيلد» كانت شائعة بين أبناء جيل ثورة يوليو)، وتلك التي قدمتها اليابان بعد ضربها بالقنابل النووية، وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية الطاحنة وبعد الحرب الكورية الأكثر طحنًا.
والحقيقة أنه لم يسلم بلد تقدم حتى كانت وراءه قصة فيها الكثير من «الدم والعرق والدموع»؛ أما القصة المصرية فكان ماضيها فيه الكثير من التضحيات في الكفاح ضد الاستعمار ومواجهة الصهيونية والإمبريالية، وفى حاضرها بدَت الأحلام قادرة على تحقيق نفسها من خلال عبقرية مصرية خاصة بزعيم أو آخر، أو من خلال وحدة عربية تنضح وحدها بالغنى والتقدم.
السلام مع إسرائيل وضع على طاولة السياسة المصرية دافع المنافسة، فجاءت أفكار حول تنمية محور قناة السويس، وتشكلت جماعة أهلية للتفكير في «التنافسية العالمية». ظل السؤال «كيف» نفعل ذلك وندخل المنافسة دائمًا معلقًا بالكثير من النوايا الطيبة.
ونادرًا ما كانت الأفكار مرتبطة بزمن أو ثمن، وفى وقت جرى الهروب من كلفة البناء في اتجاه ليبرالى كان مفتاحه أن «الديمقراطية» هي البوابة التي تقود إلى الرخاء والثروة وكفى.
بعد نهاية «الربيع» في مشهده الإخوانى وما أعقبه من عنف وإرهاب، فإن مواجهة الأزمة لم تأتِ من الجمهور العام، حيث تقدمت القيادة السياسية والعسكرية بالتضحيات اللازمة لتثبيت أركان الدولة في ناحية، والدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى في ناحية أخرى، والبدء في ناحية ثالثة عملية بناء واسعة النطاق.
ورغم أن «رؤية مصر ٢٠٣٠» مثّلت وثيقة للتغيير لدى القيادة والنخبة الاستراتيجية، فإن تنفيذها قام على تقديم الإنجازات المتوالية على أرض الواقع كما لو كانت نتيجة عصا سحرية قادرة على بعث المدن وإقامة الحياة دونما تفكير أو جهد وعرق. كان مشهد النهاية ممثلًا في المشروع، بينما القصة- والعرق الذي قاد إليه- ظلت مختفية وتبدو من طبيعة الأشياء. فقط في المواسم الرمضانية الأخيرة بدأت قصة مواجهة الإرهاب تأخذ لحمًا ودمًا وأشخاصًا وعائلات وأسرًا توضح أن النصر أتى بعد ثمن كبير جرى دفعه بكرم وشهامة وعلم.
ما حدث بعد ذلك من أول حفر قناة السويس الجديدة وحتى الافتتاح العربى غير الرسمى لمدينة العلمين ظلت فيه القصة غائبة، و«الاختيار» مجهولًا، والثمن مدفوعًا. وعندما حلت «الجائحة» فإن مواجهتها جرَت كما جرت مواجهة الإرهاب، وهى أن نحارب الأزمة ونستمر في التنمية في آن واحد، وكان كافيًا الشعور بالرضا عن حقيقة الاستمرار في تحقيق التنمية رغم البلاء، دونما حضور لقصة وثمن لنجاح.
والآن أصبح العالم يواجه حزمتين من الأزمات، الأولى أزمة كونية تتعلق بالبقاء أو الفناء وتتجلى بوضوح في الأوبئة وظاهرة الاحتباس الحرارى، بينما الأخرى فهى أزمة دولية ديناميكية.
وبعد أكثر من ستة أشهر على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، فإنها لا تزال مستمرة ولا يوجد ما يشير إلى نهايتها. وعادة ما تنتهى الأزمات والحروب بشكل ما، من خلال أولًا: القاعدة العامة، وفيها تنتهى الحروب إلى انتصار طرف بشكل كامل وهزيمة الطرف الآخر، وهو ما حدث في الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية الأمريكية، حيث كان الانتصار كاملًا واستسلام الطرف الآخر راكعًا.
وثانيًا: لا يوجد انتصار أو هزيمة مطلقة، وإنما تؤدى الحرب إلى نوع من التفاوض يعكس توازنات القوى والرغبة في إنهاء الصراع، وهذا يقود إلى ثلاثة عناصر من توازن القوى يقوم على المبادأة وتحمل الاستنزاف والقدرة على الاستمرار في المواجهة.
وفى هذه العناصر يوجد ما يكفى من التوازن: روسيا يوجد في شعبها وأراضيها الشاسعة ما يكفى للصمود في مواجهة المقاطعة الاقتصادية، وتعبئة موارد تكفى لاستمرار القتال؛ وأوكرانيا على الجانب الآخر يوجد ما يكفى من دوافع تاريخية لرفض العودة إلى الأحضان الروسية، والاستمرار في القتال بدعم من العالم الغربى ماديًّا وتكنولوجيًّا واستراتيجيًّا أيضًا.
أصبح للأزمة تأثير على دول العالم، ومنها مصر التي تأثرت بالأزمة في ثلاثة أمور، أولها: أزمة الطاقة، وهى أزمة ذات وجهين، الندرة، المتمثلة في أزمة أسعار الطاقة المرتفعة، والوجه الآخر هو وفرة الدخل للدول المنتجة للنفط (1.3 تريليون دولار مبيعات الدول النفطية). وثانيها أزمة الغذاء، والتى تُعد نقطة حرجة لمصر، خاصة أن الدولتين المتنازعتين هما أكبر مصدرتين للغذاء، وخاصة القمح ومكونات الأسمدة اللازمة للزراعة. وثالثها أزمة سلاسل التوريد، فالصناعة المصرية معتمدة على استيراد المواد، بالإضافة إلى أن هناك عجزًا كبيرًا في الميزان التجارى، ويزيد قدره نتيجة الأزمة الراهنة.
المدهش هو أنه رغم ما حدث خلال الشهور الستة الماضية، وأن هناك إدراكًا عالميًّا بأنها مستمرة ومسببة لكثير من الألم العالمى، فإنه لا يوجد رد فعل جماهيرى عالمى داعٍ إلى وقف الحرب، كما حدث أثناء حروب دولية سابقة مثل حرب فيتنام.
وهنا تحديدًا يمكن لمصر أن تتقدم بدعوة عالمية من خلال منبر الأمم المتحدة خلال اجتماعاتها في شهر سبتمبر الجارى، أو الاتصالات الدبلوماسية مع دول تدفع ثمنًا كبيرًا لحرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، مثل الهند وجنوب إفريقيا ودول أوروبية وآسيوية. مصر لديها أصول وخبرة كافية أخلاقيًّا وسياسيًّا لكى تدعو وتنظم مستغلة في ذلك أنها مقر «حماية الكوكب» ومؤتمر COP 27، الذي لا يمكن تحقيقه دون العودة إلى مائدة التعاون الدولى، الذي تكون فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين أطرافًا أصيلة.
كما يمكن لمصر أن تتجه إلى التعاون الإقليمى للتعويض عن التعامل مع النظام الدولى ككل، فالتعاون الإقليمى الخماسى الذي ظهر في قمة العلمين، وجرى قبله في جدة في قمة تساعية، يشير إلى أن «إقليمية جديدة» تدفع الضرر وتجلب الفائدة. والهدف هنا هو سد الفجوة عن طريق المصادر الإقليمية بغض النظر عن من أين تأتى.
وعلى الصعيد الداخلى يتمثل الاستمرار في عملية التنمية التي تقوم بها الدولة مع تكييفها للتعامل مع نقاط الانكشاف الموجودة، خاصة في مجال جذب العملات الصعبة والتصدير والطاقة والقمح. الأمر أولًا وآخرًا يتطلب استراتيجية تشرح للجمهور المصرى الجهد الجارى، والاختيار اللازم، والتضحيات التي لا يمكن تجنبها.