الاختبار القاسي للإصلاح

الاختبار القاسي للإصلاح؟!

المغرب اليوم -

الاختبار القاسي للإصلاح

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

بدءاً من انتهاء الحرب الباردة حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كانت المقالات والدراسات والكتب والمحاضرات عن الشرق الأوسط تتحدث عن «الاستثناء العربي» عما يجري من تيارات تعدُّ الأكثر إيجابيةً في التاريخ الإنساني والممثلة في العولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية المنتشرة وقتها في شرق أوروبا وأميركا الجنوبية وتسارعها في شرق آسيا. تفسيرات ذلك كانت كثيرة، لكنها كانت في العموم تعزو الأمر إلى فساد الدولة العربية وعجزها عن اللحاق بالعالم المعاصر وغياب الطموح الشعبي إلى الارتقاء إلى المستويات الجديدة التي أفرزتها الثورات التكنولوجية المعبرة عن المعارف الحديثة والطفرات الصناعية الجديدة. وعندما نشب «الربيع العربي» المزعوم مع ما لاقاه من ترحيب غربي فإن القول بالاستثناء سرعان ما بات أكثر ذيوعاً مع التحولات التي جرت إلى الفوضى والحروب الأهلية، والبزوغ السريع والوحشي للتنظيمات الإرهابية من «الإخوان المسلمين» وحتى تنظيم «داعش» عبوراً بتنظيمات وحركات وحكومات جميعها تنتمي إلى مذاهب الخوارج. هذا «الاستثناء» لم يشفع له ما عاشته أوروبا منذ القرن التاسع عشر عندما باتت «الفوضوية» من المذاهب السياسية المعتبرة وما لها من فلاسفة وتوجهات سياسية قادت إلى حربين عالميتين. العالم العربي في حقيقته جرت فيه التحولات التي مرت بها قارات أخرى ربما بفارق زمني قدره مائة عام نبتت فيها «النهضة العربية» في القرن التاسع عشر والتي امتدت صانعة استقلال الدول العربية، سواء من الإمبراطورية العثمانية أو من الدول الغربية الاستعمارية. ومؤخراً فإن «الربيع العربي» لم يسفر فقط عن الفوضى والتيارات الإسلامية المتطرفة، وإنما أدى إلى جهود إصلاحية كبيرة في عدد من الدول العربية المهمة تتمثل في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومصر والأردن والمغرب؛ وهذه الدول الآن تواجه اختباراً كبيراً.

«الإصلاح» في أصوله الفكرية والفلسفية كان واحداً من ردود الفعل الأوروبية أيضاً في أعقاب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، ويقوم على إنضاج الدولة الوطنية وإخراجها من الآثار العنيفة للحروب التي تمخضت عن الانقسام الكاثوليكي والبروتستانتي في القرون السابقة. الآن فإن التجربة في العالم العربي على حداثتها أحرزت نجاحات غير قليلة رغم مواجهتها تحديات الإرهاب و«كورونا» ونتائج الواقع الدولي المحتدم نتيجة الحرب الروسية - الأوكرانية. الآن فإن تجارب الإصلاح العربي تتعرض لتحدٍ جديدٍ لا يتمثل فقط في حرب غزة الخامسة، وإنما أكثر من ذلك أنها باتت تحرم الإقليم العربي من الاستقرار اللازم للإصلاح، وفوق ذلك فإنها منذرة بحرب إقليمية واسعة تحمل في طياتها احتمالات الذهاب إلى حرب عالمية. هذه التطورات نابعة من ثلاثة مصادر: أولها أن هناك حرباً إسرائيلية - فلسطينية ممتدة منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن؛ وفي الوقت الحالي فإنها تتجسد في قطاع غزة والضفة الغربية. التناقض الفلسطيني - الإسرائيلي يقوم على الأرض (الجغرافيا) والزمن (التاريخ) والبشر (الديمغرافيا). وثانيها أن التناقض السابق يقع في الوسط تماماً بين المشرق والمغرب العربيين، وكلاهما لا يستطيع أن يظل بعيداً من هذا الصراع بخاصة أن أحد طرفيه (إسرائيل) هو نتاج للفترة الاستعمارية، ويتمتع بقدر هائل من التأييد الغربي والقدرات التسليحية التي تصل إلى السلاح النووي. وثالثها أن القضية الفلسطينية تمس قضايا مهمة للعالم الإسلامي وباقي إقليم الشرق الأوسط، حيث تكون للقدس أهمية خاصة تشعل الحروب بقدر ما تدعو إلى السلام.

الإصلاح العربي الجاري لا يمكنه تجاهل كل هذه التناقضات، وإنما حاول بطرق مختلفة خلال العقود الماضية ترويضها، نتج منها معاهدات سلام مع ست دول عربية وسعي ثلاث دول أخرى إلى السلام الشامل مقابل حل جوهري للقضية الفلسطينية وفق حل الدولتين ووضع الفلسطينيين على طريق الدولة استناداً إلى اتفاق أوسلو والاتفاقيات الأخرى ذات الصلة. الآن فإن هذه المسارات المختلفة مهددة بجهود إسرائيل للتهجير القسري للفلسطينيين إلى الدول المجاورة، بخاصة مصر والأردن؛ حيث لا توجد غرابة في إسرائيل لاتهام العرب بمحاولة إلقاء «اليهود» في البحر، بينما هي تعلن ذلك بإعلانات صريحة من مصادر إسرائيلية رسمية. ولكن التهديد للإصلاح العربي لا يأتي من إسرائيل وحدها، وإنما يأتي أيضاً من تحالف إيران وتوابعها - «الحشد الشعبي» في العراق، و«الحرس الثوري» في سوريا، و«حزب الله» في لبنان، و«أنصار الله» الحوثيين في اليمن. هذه الأخيرة أخذت خطوات واسعة في اتجاه توسيع نطاق الحرب لكي تشمل البحر الأحمر.

لم يكن ذلك هو التوسيع والتصعيد الوحيد للحرب، وإنما سبقه تعميق العنف داخل غزة، وعمليات اغتيال واشتباكات على الحدود الإسرائيلية مع لبنان وسوريا، وصدامات بين «الحشد الشعبي» في العراق وبين الولايات المتحدة في سوريا والعراق. النقطة المتفجرة الآن هي التصعيد الجاري في البحر الأحمر والمهدد للتجارة العالمية، ولأمن الإقليم العربي. البداية جاءت من جماعة «أنصار الله» الحوثية في اليمن بالاعتراض العسكري للملاحة الدولية كمشاركة منها في حرب غزة؛ وعندما قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بتكوين مجمع عسكري لحماية الملاحة دفاعياً أولاً بصد الهجمات الحوثية، ولكن بعد الإصرار الحوثي على الاستمرار لم يكن هناك بد من الضرب ثانياً لقواعد إطلاق الصواريخ والمسيّرات داخل اليمن. وهكذا وصلت الحرب إلى النقطة الحرجة للتصعيد طالما أن التصميم الحوثي قائم على الرد؛ وزيادة التوجه الغربي والإسرائيلي لضرب القوة الإقليمية القائدة لرباعي الميليشيات في إيران. مثل هذا الاختبار لا توجد دولة عربية واحدة سوف تكون قادرة على مواجهته، ولا يوجد من سبيل إلى ذلك إلا إذا ما قام تحالف عربي قادر على وضع الاستراتيجيات لإدارة صراع ليس بالضرورة حتمياً، وإنما احتمالاته لا يمكن الفرار منها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاختبار القاسي للإصلاح الاختبار القاسي للإصلاح



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:41 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
المغرب اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 08:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 09:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها
المغرب اليوم - نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها

GMT 10:24 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
المغرب اليوم - نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 13:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية
المغرب اليوم - خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية

GMT 17:10 2017 الإثنين ,24 إبريل / نيسان

مصطفى قمر ضيف غادة عادل في "تعشب شاي"

GMT 07:37 2017 الخميس ,15 حزيران / يونيو

الأناقة تغيب عن ملابس الرجال في أسبوع موضة لندن

GMT 20:46 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

أخطاء يفضل تجنبها في ديكور المنزل العصري

GMT 10:58 2021 الثلاثاء ,13 تموز / يوليو

ريال مدريد يتحرك لضم موهبة برشلونة خاومي جاردي

GMT 20:19 2018 الأربعاء ,13 حزيران / يونيو

الكشف عن أسباب تراجع أسعار النفط عالميًا

GMT 15:58 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

محمد أوزال يكشف عن سعادته بثقة الرجاويين

GMT 06:17 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

"Pop.Up Next" السيارة الطائرة بمقصورة الركاب المميزة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib