بقلم - عبد المنعم سعيد
بالصدفة البحتة، قرأت مقال «توماس فريدمان» في صحيفة «النيويورك تايمز»، الذي يلخص فيه الطريق إلى العام الجديد من عام آخر أخذ في طريقه قطعة من التاريخ. الآن، يكتب الرجل الذي كان كتابه «العربة ليكسوس وشجرة الزيتون» حديثًا عن عالم جديد سريع وديناميكى إلى أقصى حد، وآخر ضارب في أرض التقاليد القديمة لا تريد مغادرتها، يدخل والعالم في القرن الواحد والعشرين. في مقاله عن العامين الآن، يصل إلى شبه قانون، حيث فترات من التاريخ الإنسانى تكون إيجابية، وأخرى سلبية الفعل والنتائج، ويبدو أن عالمنا ينحو بقوة في تلك الفترة الأخيرة التي يتصادم فيها العالم والشرق الأوسط. في هذا الموقع الأخير يلمح المستقبل في مقارنة شيقة بين غزة ودبى التي كان فيها حاضرا لمؤتمر المناخ، ومراقبا لمدينة تقع على بحر وفى جوف الصحراء، ولكن عيونها للأمام وما وراءها كان تراكما في العلوم والتكنولوجيا؛ وباختصار الغنى والسلام. حماس في غزة مشت عكس الطريقين، وخلال ما يقل عن عقدين قادت فيهما القطاع خاضت فيهما أربع حروب للدفاع عن فلسطين؛ وهذه المرة فإنها تخوض الحرب الخامسة التي سوف تتولى تدمير الكيان الصهيونى بينما تطالب بوقف إطلاق النار في نفس الوقت ولا تترك إسرائيل تقع في قدرها المحتوم!. غزة باتت من الركام الذي يعيش فيه شعب يعانى من نكبة أخرى دفعت إليها البربرية الإسرائيلية. كانت المقاربة قد عنت لى فكتبت فيها عمودا في «الأهرام» الغراء، نشر في ٢٢ نوفمبر الماضى؛ وهذه المرة فإن ذكرها من قبل فريدمان جاء بينما أستعد للسفر من يوم واحد إلى دبى بدعوة كريمة لحضور «المنتدى الاستراتيجى العربى». المنتدى يبحث في أمور استراتيجية هامة شاركت فيها من قبل عام ٢٠١٩.. وهذه المرة وبعد أربع سنوات فإن العالم كان قد تغير، والحقيقة أنه بات رأسا على عقب؛ وهذه المرة فإنه كان طبيعيا أن تكون حرب غزة الخامسة هي بيت القصيد.
المنتديات من هذا النوع فيها مثل السفر سبع فوائد، منها أنك تلتقى مع زملاء تزاملت معهم في بحث شؤون الكون والمنطقة، وكلاهما لا يكف عن التقلب خلال نصف القرن الماضى.
كان بديعا الالتقاء مع د.غسان سلامة ود. فواز جرجس ود. عبدالعزيز صقر وآخرين من أصحاب التجربة، كان منهم الوزير نبيل فهمى والأمير تركى الفيصل ود. فيتالى نعومكين؛ وأن يحدث ذلك أثناء أزمة لا تزال نيرانها مستعرة ومنذرة بانفجار، لا يعلم نتائجها إلا العلى القدير.. ومنها أنها تجرى في دبى التي ما إن وصلت إلى مطارها حتى أدركت أنه كما قال ترامب من قبل وفريدمان الآن، إنها تفوقت على الكثير من مدن العالم المتقدم. وصلت حوالى الواحدة صباحا، وإذا بالمطار مزدحما بأكثر مما كان في سفينة نوح من كافة جنسيات الأرض، وليس فقط من كل زوجين اثنين وإنما أعداد متدفقة وسريعة الحركة. كان ممتعا أن تنظر إلى مدينة عربية في الساعات الأولى من الصباح وهى متلألئة بأنوارها التي لاحظتها من الطائرة، بينما الجانب الآخر من الخليج حيث إيران مظلم. لم يكن النوم ممكنا قبل الثالثة صباحا.
اليوم بدء بداية مثيرة بخبر اغتيال «صلاح العارورى» في شقته بالضاحية الجنوبية لبيروت التي يقع فيها ويسيطر عليها «حزب الله»؛ ومع الخبر كانت الإشارة إلى حديث أدلى به السيد حسن نصرالله بأنه لن يسمح لإسرائيل بأن تقوم بعمليات عسكرية على الأرض اللبنانية، وبالتأكيد حتى ولو كان الضحية قيادة فلسطينية معتبرة. وفى القاعة الأنيقة، توالت الجلسات على طريقة «دافوس» في جلوس المشارك أو المشاركين على المنصة، بينما يقوم «محاور»- الذي بعد إعطاء دقائق لتقديم الموضوع- يقوم بطرح الأسئلة في عقول الحضور من الوزراء والأمراء وأصحاب السلطة والمقام مع إعلام وشخصيات عامة ومثقفين. وبينما كان مركز الموضوع في كل الجلسات حرب غزة، فإن حالة العرب كانت هي لب القضية لبحث حالة العالم ونظرته للعالم العربى، ونظرة هذا الأخير إلى الدنيا بأسرها.
الاقتصاد والسياسة طرحا نفسيهما في توالٍ سريع، حيث تراوح زمن الجلسات ما بين نصف ساعة و٣٥ دقيقة؛ ففى دبى لا يوجد وقت كثير للكلام. كان مدهشا أن يكون «الكوميديان» المصرى «باسم يوسف» مشاركا بجلسة كاملة، وهو الذي مثّل حالة وحده عندما ساهم من خلال برنامجين تليفزيونيين في إحداث التحول الذي جرى في الرأى العام العالمى تجاه القضية الفلسطينية. كان حديثه كما هو العادة شيقا ورشيقا ومرحا، ولكن موضوعه كان جادا تماما، حيث تحدث عن صورة العرب السلبية في السينما الأمريكية.. ولكنه في ذات الوقت قدم أمثلة من جماعات عرقية مثل الأمريكيين الأفارقة واليهود، وكلاهما نجح في تحول هوليوود نحو إنتاج إيجابى وموضوعى عن كليهما.
كان نصيبى من الكلام في جلسة خاصة عن «كلفة عدم تحقيق السلام: الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ٢٠٢٤» شاركنى فيها د. دافيد جوردون ممثلا مجموعة «يوراسيا»، التي أعدت تقريرا عن موضوع الجلسة وهى شركة استشارات سياسية تقع في مدينة نيويورك تبحث في الأمور الأوروبية الآسيوية. عرض الرجل تقريره مشيرا إلى الخسائر المادية الفادحة نتيجة الصراع العربى الإسرائيلى، حيث بلغ الإنفاق المباشر عليه تريليون دولار خلال ٧٠ عاما من الحرب التي خسر فيها الفلسطينيون منذ عام ١٩٤٨ قرابة ١٠٥ آلاف من الضحايا، والإسرائيليون ٢٥ ألفا. قدر التقدير أن العرب سوف يستفيدون تجنبًا للخسائر في الأرواح والفرص البديلة ما قدره ١.٧ تريليون دولار، أما الإسرائيليون فسوف يحصلون على ٢١٩ مليار دولار؛ وبقية الإقليم ١.٥ تريليون دولار.
تعليقى قام على النقاط: أولاها أن الحديث الإحصائى لا يفيد عندما يكون الموضوع حياة لا تقدر بثمن، ليس فقط في ذاتها وإنما أيضا ما فيها لليتامى والأرامل من ألم وتعاسة وأمراض نفسية. وثانيتها أن الصراع لم يكن حول الإسرائيليين والفلسطينيين وحدهم، وإنما كامل الإقليم الشرق أوسطى، حيث صبغ الصراع المنطقة بصبغة متصارعة تعددت فيها جولات الحروب التي لا يمكن إحصاؤها رقميًا، بينما تحرم الدول والشعوب من فرصة للتقدم. وثالثتها أن الحرب الحالية تسير فيه باتجاه إشعال حرب إقليمية واسعة النطاق تأكل الأخضر واليابس طالما أن إيران وإسرائيل تسعيان إلى مواجهة مدفوعة بدفعات دينية حارقة، وتتجلى الآن في مشاهد ليس فقط ما يجرى في غزة وإنما على الحدود اللبنانية الإسرائيلية بين حزب الله وإسرائيل، وفى البحر الأحمر حرب الحوثيين وإسرائيل في حضور أساطيل الولايات المتحدة ودول أخرى. ورابعتها أنه آن الأوان لجهود كثيفة من أجل السلام لمواجهة اتجاه توسيع الصراع والحرب التي سوف تدفع ثمنها المنطقة كلها، والذى بدأته مصر بعقد مؤتمر السلام وما أعقبه من بيان الدول التسع، مبادرة السلام المصرية التي استندت إليه. وخامستها أن جيلى دفع ثمنا فادحا لهذا الصراع وينبغى ألا نترك مثل ذلك للأجيال القادمة.