بقلم - عبد المنعم سعيد
عشت الزمن الذى جرى فيه اغتيال الرئيس الأمريكى جون كنيدى؛ وبغض النظر عما يأتى بعد ذلك من كتب وأفلام عن الرجل ومقتله، وحتى عن زوجته الفاتنة من بعده جاكلين كنيدى وزواجها ثم طلاقها من المليونير اليونانى أوناسيس، (لم تكن الملياردير قد ذاعت)؛ فإن الرجل كانت له صلة بنا عندما تبادل الرسائل مع الرئيس جمال عبدالناصر، وفى واحدة منها وصف الأخير القضية الفلسطينية بأن مَن لا يملك قد أعطى لمَن لا يستحق أرض فلسطين. كان كنيدى يمثل جيلًا جديدًا للقادة الأمريكيين عُرف بجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان شابًّا، دخل البيت الأبيض وعمره ٤٣ عامًا، مختلفًا فى الكثير عن الجيل الذى سبقه، وكان فيه فرانكلين روزفلت وهارى ترومان ودوايت إيزنهاور.
واقعة الاغتيال أصبحت لغزًا مستمرًّا، ولكنه سرعان ما أعطى نظرًا لواحد من التقاليد الأمريكية الذائعة؛ فقبل أن تنتهى الستينيات كان الاغتيال قد حل بمارتن لوثر كينج، زعيم التحرر للأمريكيين الأفارقة، وكذلك مع روبرت كنيدى، شقيق الرئيس الراحل. مع النضج كانت العودة إلى ما هو أبعد فى الماضى من عمليات الاغتيال ومحاولاته، وهذه وصلت إلى إبراهام لينكولن، الذى أراد الاحتفال بالنصر فى الحرب الأهلية، فأخذ زوجته لمشاهدة مسرحية، وهناك أتاه مَن أطلق عليه الرصاص. ومع العمر توالت المحاولات لقتل الرئيس جيرالد فورد؛ ولكن أكثر المحاولات إثارة كانت مع الرئيس رونالد ريجان، وكان محتواها عاطفيًّا عندما قام «جون هينكلى جونيور» بإطلاق ست رصاصات باتجاه الرئيس لأنه اعتقد أن ذلك سوف يثير اهتمام الممثلة «جودى فوستر» التى أحبها. قيل بعد ذلك إن محاولات جرت لاغتيال بيل كلينتون وكذلك جورج بوش الابن، ولكن جرى إجهاضها فى مهدها.
محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب جاءت فى عصر مختلف بلغت فيه نظريات المؤامرة ذروتها مستفيدة مما ذاع من ألغاز عن المحاولات السابقة؛ وكما هى العادة فإن المؤامرة قابلة للتعدد، وهذه المرة ذهبت أولًا فى اتجاه الرئيس بايدن، فهو فى السلطة، ولذلك يريد إزاحة منافسه، بعد أن انتصر عليه فى المناظرة الأولى، وتركه بعهدها يواجه التمرد داخل الحزب الديمقراطى على ترشحه للرئاسة ومطالبته بالانسحاب حتى يمكن لمؤتمر الحزب القادم أن يختار مرشحًا جديدًا أو حتى يستقر على نائبته كاميلا هاريس.
التخلص من ترامب كان يحل كل مشاكل بايدن؛ ولكنه بعد فشل المحاولة بات يغطيها بمكالمة مساندة مع خصمه، ثم تصريحات من البيت الأبيض فى نفس الاتجاه، ومن بعده خطاب إلى الأمة الأمريكية، داعيًا إلى الوحدة، ثم مطالبة الأجهزة المعنية بالإفراط فى تقديم العون الأمنى لمؤتمر الحزب الجمهورى. ثانيًا تتجه المؤامرة إلى ترامب، الذى هو بحكم تاريخه التلفزيونى يعرف كيف تُحاك التمثيليات وتُحبك بمشهد يمثل الذروة، حيث تأتى الرصاصة التى تصيب حافة أذن الرئيس السابق لكى تنزف الدماء مدرارة، فتلوث قميصه الأبيض الناصع، تاركة على وجهه خطوطًا دموية، وبينما يحيط به رجال الأمن إحاطة السوار بالمعصم، فإنه يرفع يده وقبضته، صائحًا، مطالبًا مشجعيه بالاستمرار فى القتال FIGHT.
جرى ذلك فى نفس اللحظة التى اكتشفت فيها أجهزة الأمن مَن أطلق الرصاص الذى أصاب ترامب، ومعه قتل شابًّا وأصاب اثنين، وجرى ذلك فى نفس اللحظة التى قام فيها رجال الأمن بـ«تحييد» «توماس ماثيوز كروكس»، أى قتله. لم يُثِر اهتمام الكثيرين أن الرجل لم يكن شائعًا عنه الاهتمام بالسياسة، وحينما قُيد اسمه فى السجل الانتخابى فقد كان جمهوريًّا، وكانت علاقته بالحزب الديمقراطى أنه تبرع بمبلغ ١٥ دولارًا فى أحد الأعمال الخيرية.
عاد مشهد اغتيال كنيدى إلى الأذهان وكيف أن مَن اتُّهم بقتله «لى هارفى أوزوالد» قد جرى قتله قبل أن يتم التحقيق معه من قِبَل «جاك روبى»، الذى تُوفى بعد شهور من مرض السرطان. هذه المرة، فإن «توماس ماثيوز كروكس» جرى قتله قبل أن يجرى تحقيق معه وفى مكانه، حيث وُجدت بندقية كان والده هو الذى قام بشرائها؛ ومن قِبَل الأمن الذى كان كامنًا فوق سطح مبنى قريب، لم يُرَ المتهم وهو يقوم بالقتل، ولكن بعد انتهائه من المهمة!. ومن عجب لدى المهتمين بالمؤامرة أن محاولة الاغتيال رفعت شعبية ترامب ارتفاعًا كبيرًا من ٤٨٪ ممن ينتوون الانتخاب إلى ٦٩٪؛ ورغم أن شعبية بايدن نزلت إلى ساحق المستوى، فإن الرئيس الأمريكى فاز بانصراف الأنظار عن متابعة ما يتعثر فيه من ألفاظ وتحركات الروبوت التى يعيش فيها، وما جاءه من فرص لكى يلعب دورًا أبويًّا يطالب بوحدة الأمة الأمريكية.