بقلم - عبد المنعم سعيد
عشت جزءًا غير قليل من حياتى أهتف وأتابع وأقاتل من أجل «القضية الفلسطينية»؛ ولكن القضية سرعان ما ضاعت من بين أصابعنا، وأخذتها أجيال وجماعات أخرى. ومن وقت لآخر كانت تظهر أعاجيب شتى يبدو فيها القائمون على «القضية» وكأنهم يعيشون حالة من التنويم المغناطيسى، الذي جعلهم لا يعرفون الفارق ما بين الحقيقة والخيال، والماضى والحاضر، والواقع والتمنيات. لم تبقَ في النهاية إلا مجموعة من السيناريوهات مثل حل الدولتين الشائع، الذي لا يوجد مَن هو على استعداد لدفع ثمنه؛ وحل الدولة الواحدة الذي هو واقعى حاليًا تحت كنف الدولة الإسرائيلية المعبأ بالكراهية والتمييز العنصرى؛ وحل اللا حل، أي أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وهو الوصفة التاريخية لاستمرار الصراع وعدم الاستقرار في منطقة تسعى إلى الإصلاح.
المنعطف الحالى للقضية، الممثل في حرب غزة الخامسة، يتجاوز الحروب السابقة، وهو أن تجرى عملية للمقاومة، بعد فترات طويلة من الضغط الإسرائيلى، تأخذ شكلًا انتحاريًّا أو مؤخرًا إطلاق صواريخ، فيكون الرد عمليات جوية إسرائيلية تقوم بعمليات تدمير واسعة النطاق. التاريخ والمواقف الإنسانية المنقولة بالصوت والصور تُقيم حالة من الانفعال العربى ضد الصمت العالمى والمعايير المزدوجة ومخالفة القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية، وبعدها يتصدر عرب لتعمير غزة مع بعض المنظمات الدولية، وبعد ذلك ينتظر الجميع جولة أخرى.
الجولة الحالية تسير وفق نفس المنظومة، مع بعض التعديلات التي تجعلها أشد قسوة. التعديل الأول أن الحكومة الإسرائيلية آلت إلى جماعة من المتطرفين اليهود، بحيث طغت داخليًّا في محاولة لتغيير القانون الأساسى الإسرائيلى؛ ثم طغت خارجيًّا باضطهاد الفلسطينيين داخل إسرائيل، وفى القدس الاعتداء المستمر على المسجد الأقصى تحت راية وجود «هيكل سليمان» أسفله، وفى الضفة الغربية بدفع الاستيطان إلى مستويات غير مسبوقة. التعديل الثانى أن تنظيم حماس، الحاكم في قطاع غزة، منذ انقلابه على السلطة الوطنية الفلسطينية، نجح في الخروج من تقاليد المراحل السابقة، من خلال مفاجأة استراتيجية، سوف تُدرس فيما بعد في المعاهد العسكرية، دخلت فيها إلى غلاف غزة، مقتحمة مناطق تُعدها إسرائيل خارج مناطق النزاع. وهذه المرة لم يكن هناك قتلى من الجنود وحدهم، وإنما رافقهم عدد كبير من المدنيين نساء وأطفالًا وشيوخًا.
التعديل الثالث أن التأييد العالمى الذي حصلت عليه إسرائيل غير مسبوق، فلم يحدث فيما أذكر أن حشدت الولايات المتحدة حاملة طائرات في شرق «المتوسط» كما حدث هذه المرة؛ ولم يحدث أن قامت الهند بتأييد إسرائيل كما فعلت في هذه الحرب، أما الصين فإنها قدمت بيانًا مائعًا كان انتقاصًا من تأييد سابق للفلسطينيين، روسيا اكتفت بنداء ضبط النفس. التعديل الرابع هو أنه رغم مسيرة الإعلام العربى التقليدية، فإن كتاب الأزمة لا يزال مفتوحًا؛ فإذا لم يتحقق ما طالبت به حماس بأن يقوم المقاتلون الفلسطينيون في الضفة الغربية، وحزب الله في جنوب لبنان، وسوريا في شمال فلسطين، بفتح النار على إسرائيل؛ فإن الحرب سوف تبقى على مشهد إقامة نكبة فلسطينية جديدة.
عودة إلى ما قبل الأزمة الحالية، فإن الحل السحرى على ساحة البحث السياسى لوقف مسيرة الأزمات الفلسطينية الإسرائيلية كان «تطبيع» العلاقات الإسرائيلية السعودية باعتبارها «السيناريو» الذي يقترب من القضية بأن يضع في صحنها كل قضايا الأمن القومى السعودى، والإقليمى الإسرائيلى، وصياغة العلاقات ما بين إسرائيل والفلسطينيين، وفيها من التمنيات الكثير، ومن الوقائع على الأرض حفنة من تخفيف الألم الفلسطينى. الصحن مزدحم، والحديث عن مفرداته يقودنا إلى مفردات تخص شخوصًا ومؤسسات بعيدة لها ظروفها السياسية والانتخابية التي لا تجد جدوى في المقترب، ولا استعدادًا لدفع الثمن المصاحب له. المرجح أن حماس ومعها إيران وجدا تهديدًا استراتيجيًّا كبيرًا يقلب الأوضاع الجارية في المنطقة، ويُقيم ائتلافًا يعادى التطرف والعنف، ويبحث عن حل تدريجى للقضية الفلسطينية في اتجاه حل الدولتين، ولكن مع مراعاة أمور أمنية إسرائيلية وتحقيق ازدهار فلسطينى خلال المرحلة الانتقالية.
الواضح هو أن هذا المقترب تعرض لضربة تستدعى إعادة التفكير فيه وتطويره إلى حل إقليمى شامل لا يأتى تحت تهديد السلاح والإرهاب، وإنما يأتى نتيجة السير نحو مستقبل أفضل. الفكرة هنا تستند إلى ما أسلفنا الإشارة إليه حول الإصلاح العربى الجارى في السعودية ومصر والأردن ومنطقة الخليج، حيث الطلب يزيد أولًا على ضرورة الاستمرار في تحقيق أهداف تنمية مستدامة، وثانيًا أن تحقيق ذلك يستوجب شرط الاستقرار الإقليمى. وثالثًا أن القوى المعاكسة التي تستخدم الدين أو العنف سوف تكون عليها مواجهة قوى كثيرة تتفاعل مع أوضاع الازدهار الاقتصادى والاجتماعى والثقافى في المنطقة القريبة. باختصار فإنه إبان السعى نحو معاهدات السلام التي جرَت بين إسرائيل وكل من مصر والأردن كان شائعًا الحديث عن «عوائد السلام»، وكان الظن أنها سوف تأتى إلى شعوب المنطقة نتيجة تخفيض الإنفاق العسكرى، كان الازدهار المتوقع يأتى في أعقاب السلام؛ والفكرة في المقترب الجديد هي أن السلام سوف يأتى في أعقاب الازدهار. الأمر في كل هذا له تفاصيل، ولكن ذلك موقعه لدى المؤسسات ومراكز البحث والتفكير، التي عليها أن تبدأ من حقيقة أنه إذا كان هناك عصر جديد على المستوى العالمى فلابد أن يكون هناك عصر جديد على المستوى الإقليمى، ومادامت هناك أجيال جديدة تصنع المستقبل في بلادها، فلماذا نبخل بها على الاستقرار في منطقة استعصت عليه طوال عقود سابقة؟.
مصر هنا لها مكانة محورية، فهى صاحبة مصلحة لأنها تسير في مشروع إصلاحى شامل للتحديث والتقدم مضت عليه تسع سنوات، ويبقى على إنجاز «رؤية مصر ٢٠٣٠» ثمانى سنوات أخرى. هذا المشروع تعرض مؤخرًا لعدد من الأزمات الوبائية والعالمية، ويتضرر حاليًا من الأزمة الإقليمية الكلاسيكية الجارية. معالجة الأزمة وجودية للمشروع المصرى من خلال تآلف إقليمى يضم دول الإصلاح العربى التي يتعرض مشروعها الوطنى لأخطار الحريق. إشهار هذا التآلف سوف يعطى رسالة بأن مصالح الشعوب العربية لابد من مراعاتها في الأوضاع الإقليمية؛ ورسالة أخرى للعالم بأن المنطقة تسعى إلى الاستقرار، ومفتاحه أن توجد حكومة إسرائيلية لا تقوم على أجنحة للتطرف الدينى، وحكومة فلسطينية تعود إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ولا تقوم هي الأخرى على التطرف الدينى، وإنما إقامة دولة فلسطينية وطنية كما هو الحال في دول الإصلاح. في هذا الإطار يمكن إنشاء منطقة سلام كبرى في شمال البحر الأحمر، حيث تتقابل المناطق التنموية في شمال شرق مصر، حيث شبه جزيرة سيناء؛ والمنطقة التنموية السعودية في شمال غرب المملكة، حيث تنمية إقليم العلا. في الملفات القديمة لعملية السلام خلال التسعينيات من القرن الماضى، كان هنا تصور ضيق لكى تكون المنطقة حول خليج العقبة «ريفييرا» سياحية تتفاعل فيها الأقوام والشعوب. هنا، وبدعوة عربية، يوجد ما هو أكثر، ولا يوجد مجال للعنصرية والكراهية والعنف.