بقلم - عبد المنعم سعيد
ربما لا يعكس حالة مصر في سياستها الخارجية أكثر من اجتماع دعوة مصر إلى الانضمام إلى تجمع «البريكس»- وهو ما سيسرى من أول يناير القادم ٢٠٢٤- مع إجراء دورة جديدة من دورات مناورات «النجم الساطع»، التي تستضيفها وتتعاون في إجرائها مع الولايات المتحدة الأمريكية. الموضوع الأول كان موضع اهتمام من الرأى العام المصرى خلال الفترة القصيرة الماضية باعتباره تصويتًا بالثقة في الاقتصاد المصرى من قِبَل مجموعة دول مهمة في النظام الدولى المعاصر، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، ترفع شعارات كثيرة لتغيير النظام الاقتصادى العالمى ووقف اعتماده على الدولار الأمريكى. وفى أذهان كثيرين في مصر ترددت أصداء التنظيمات «الوسيطة»، التي جرى إنشاؤها أثناء فترة الحرب الباردة، مثل مجموعة عدم الانحياز السياسية ومجموعة الـ٧٧، التي انضمت إليها معظم دول مَن كانوا يسمون العالم الثالث، (على أساس أن العالم الأول هو أوروبا الغربية وشمال أمريكا، والعالم الثانى هو أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتى). وفى أذهان أخرى ترددت أصداء الحرب الباردة الثانية، بحيث بدا البريكس تشكيلًا لمحور مناهض للولايات المتحدة وحلف الأطلنطى والغرب عامة. كان لدى هؤلاء انتظار طويل لإنهاء سيطرة الولايات المتحدة على العالم من خلال «العولمة» وعملتها النقدية: الدولار. ومادام كان يوجد داخل «البريكس» مَن يطالبون بالتعامل بالعملات المحلية، أو بحزمة من العملات في المستقبل، فإن المنظمة قد تكون سبيلًا للتعامل الإيجابى مع مشاكل مصر النقدية. وفى أذهان ثالثة فإن أمر «البريكس» بدا كما لو كان تكرارًا للتجارب الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبى، والتى تأخذ مسارًا اقتصاديًّا تكامليًّا تتزايد فيه أعمال التجارة الحرة والاستثمار المباشر، وباختصار تكوين كتلة دولية اقتصادية تكون نواة لعالم متعدد الأقطاب يكون فيه «جنوب العالم أو The Global South» ذا شأن في النظام الدولى «الجديد».
الرأى عندنا يختلف عما جاء في الأذهان المصرية السابقة، فالبريكس ليس جماعة عدم انحياز أخرى، ولا هو محور جيو استراتيجى آخر، ولا هو اتحاد جنوبى اقتصادى؛ وإنما هو مشروع آخر ومختلف للعولمة ومراجعة النظام الدولى قام على أساس من الصعود الصينى إلى قمة العلاقات الدولية. ومنها يأخذ الكثير من سماتها الخاصة ليس فقط بالمراجعة، وإنما في المرونة الشديدة للعلاقات بين دول العالم، خاصة بين الشرق والغرب. ومن المعلوم أن الشريك التجارى المهم للولايات المتحدة والصين هو كلا منهما تجاه الآخر، حيث التفاعل يسير على جبهات التجارة وعملة الدولار والتعاون التكنولوجى والاستثمارات لكبرى الشركات في البلدين. التناقضات هنا يمكن حسابها في موضوع آخر، ولكن في إطار «البريكس» فإن الصين تحاول وضع أفكارها لعالم المستقبل بين أكبر عدد ممكن من المؤيدين. ولكن في الوقت الراهن من حيث المرونة، أي العمل على أساس من المصالح الخاصة المباشرة، فإن الصين تتعامل مع الهند شريكًا في ساحة البريكس والعمل على تغيير النظام الاقتصادى الدولى، ولكنها تختلف معها، وربما تتناقض فيما يتعلق بالحدود المتنازع عليها، وفيما يتعلق بتواجد الهند مع مجموعة «الكواد»، التي تضم معها الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، وهى القريبة من تجمع «أوكوس» في الساحة «الإندو باسيفيك»، الذي يضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا. وسواء كان هذا التجمع أو تلك فإن ترجمته الجيو سياسية هي النظر بعين الخصومة الحالية أو المحتملة مع الصين.
هنا يأتى تحديدًا عقد مناورات النجم الساطع ٢٠٢٣ بمشاركة ٣٤ دولة مضافًا إليها ١٥ دولة مراقبة، ومن الدول المشاركة الهند والمملكة العربية السعودية. المناورات تُعد هي الأعلى والأكثر مشاركة من الدول في منطقة الشرق الأوسط، ومن الناحية العسكرية الفنية فإن لها من الشمول والأهمية ما يأتى بعد مناورات حلف الأطلنطى. نشأة هذه المناورات التي تجرى بصورة دورية على الأراضى المصرية كان هدفها في مطلع الثمانينيات من القرن الماضى الدفاع عن منطقة الخليج العربى من احتمالات الهجوم من قِبَل الاتحاد السوفيتى على المنطقة الأهم في الاستراتيجية النفطية العالمية. ومع انتهاء الحرب الباردة كانت أصداء الحرب العراقية الإيرانية ثم الغزو العراقى للكويت إشهارًا لتعرض منطقة الخليج لتهديدات متنوعة لاستقرارها، كان آخرها بزوغًا التحدى الإيرانى التقليدى والنووى. وفى المراحل الأخيرة من المناورات بات «الإرهاب» واحدًا من التحديات التي تجرى المناورات من أجل مواجهتها.
انضمام مصر إلى البريكس وإجراؤها مناورات النجم الساطع يشهدان على مرونة السياسة الخارجية المصرية وقدرتها على تلبية احتياجات الدولة المصرية سواء كانت الأمنية أو الاقتصادية. الحكومة المصرية في هذا متسقة مع اتجاه مصرى نحو توسيع مساحات الشراكات المصرية، التي بدأت بالمشاركة النشطة في إنشاء الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، ومن بعدها علاقات مصر العربية في إطار الجامعة العربية، ثم علاقاتها الإفريقية في إطار منظمة الوحدة الإفريقية ثم الاتحاد الإفريقى و«الكوميسا». ومع أوروبا توجد رابطة التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبى، وعلاقات خاصة مع اليونان وقبرص في إطار منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط، وكذلك مع التجمعات الجارية في شرق أوروبا. وكل ذلك لا يعكس فقط المرونة المصرية في تلبية احتياجات مصالحها الحيوية، وإنما أيضًا أن مصر بأحوالها الحالية تمثل إضافة إلى هذه التجمعات بما لديها من قدرات جيوسياسية واستراتيجية واقتصادية أيضًا.
هذا الامتداد الجديد للسياسة الخارجية المصرية يفرض بشدة ضرورة الإصلاح الاقتصادى الجدى في اتجاه اقتصاديات السوق الحرة لأن جميع الدول التي تتعامل معها مصر من خلال هذه الروابط المتنوعة أمنيًّا وحضاريًّا تتبنى اقتصاد السوق الحرة سواء كانت هي الصين أو الهند أو البرازيل أو روسيا. أمران تحتاجهما مصر الآن في هذه المرحلة المهمة من تاريخها على منعطف منتصف تنفيذ «رؤية مصر ٢٠٣٠»: أولهما استكمال تحرير الاقتصاد المصرى من القيود العديدة بحيث يكون أكثر حساسية لقواعد العرض والطلب. وثانيهما أنه سواء جرى التعامل مع دول البريكس بالعملات المحلية أو بعملات دولية مثل الدولار أو اليورو أو الذهب، فإن تقييم عملة التعامل سوف يكون واحدًا. العملة هي مقياس للقيمة حسب مقتضيات العرض والطلب، وليست مجرد وسيلة للتبادل.
وباختصار فإنه بات على مصر أن تربط ما أحرزته من تقدم اقتصادى في البنية الأساسية في تعزيز قدراتها الصناعية والزراعية والخدمية ثم التصديرية والسياحية، التي تُعد بمثابة تصدير لمزايا مصر النسبية في السياحة من خلال الموقع الجغرافى والعمق التاريخى. ولكن ربما سيكون من أهم ما على مصر الاستعداد بشأنه هو المشاركة في أهم أهداف جماعة «البريكس»، وهو مراجعة النظام العالمى وإعادة تنظيمه بما فيه إعطاء دور أكبر ليس فقط للصين وروسيا والهند والبرازيل، وإنما إعطاء فرص أكبر «لجنوب العالم» في أن يكون له نصيب أكبر من الكعكة العالمية.
القضية ليست فقط إلغاء الديون أو تقديم تسهيلات التصدير، وإنما الأهم هو تقديم الدعم اللازم للبنية الإنتاجية في بلدان الجنوب، وفى مقدمتها مصر، بالاستثمارات والتكنولوجيا