بقلم - عبد المنعم سعيد
وكأن العالم يسير في خطين متوازيين: أولهما بؤرته الحرب الروسية الأوكرانية بكل ما يتمخض عنها من هجوم ودفاع، سخونة وبرودة، ومؤامرات من كل شكل داخلى وخارجى، وتكتلات كبيرة مثل حلف الأطلنطى ودول الاتحاد الأوروبى في ناحية، وروسيا ومعها بيلاروسيا وحفنة من الدول في ناحية أخرى. وثانيهما سعى مجموعة من الدول الكبيرة وغير الغربية إلى تكوين تكتل عالمى يواجه اقتصاديًّا مجموعة الدول السبع الكبرى، ومعه النظام الاقتصادى الدولى الذي شكّلته الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذا الخط الثانى هو ما يهمنا في هذا المقام لأن هذه الدول قامت بتشكيل تنظيمين دوليين كلاهما مقره في الصين.
الأول هو «منظمة شنغهاى للتعاون»، التي تأسست عام 2001 بعضوية (روسيا والصين وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وطاجكستان)، وتتخذ من بكين مقرًّا رسميًّا لها، وفى عام 2017 ضمت باكستان والهند، وتترأس الأخيرة دورتها للعام الحالى، وفى هذه الدورة تم ضم إيران. وثانيهما تنظيم «البريكس أو BRICS»، الحروف الأولى من أسماء خمس دول، هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. وبدأت العمل في سبتمبر ٢٠٠٦، وكانت قبل انضمام جنوب إفريقيا إليها تسمى «بريك أو BRIC»، وأصبحت بريكس بعد دخول جنوب إفريقيا عام 2010. وسواء كانت المنظمة هي «شنغهاى» أو «البريكس»، فإن الدول فيهما اتفقت على إنشاء هيكل اقتصادى يكون ضد الكيانات الغربية المهيمنة والمتحكمة في العالم، مثل صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى، وهى تتبنى نظامًا جديدًا يقضى على فكرة القطب الواحد، التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة والهيمنة على اقتصاد العالم، من خلال وضع القيود على الدول النامية والضعيفة في دول العالم الثالث.
.. بشكل ما، فإن المنظمتين تمثلان نمطًا لمراجعة النظام الدولى الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد ذلك الذي تبلور بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، وتضمن قيادة الولايات المتحدة للنظام الاقتصادى العالمى القائم على «العولمة» وعملة الدولار الأمريكى. وعلى مدى العقود الثلاثة (١٩٩٠- ٢٠٢٠)، كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددان الأساسيان للنظام الدولى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. و«المراجعة أو Revisionism» هي جزء أساسى من الفكر السياسى الدولى الذي ينظر في التغيرات المختلفة لتوازنات القوى التي يمكنها أن تأخذ نظامًا إلى آخر. القاعدة هنا هي أنه لا يوجد نظام دولى يدوم إلا بالقدر الذي مكّنته «القوة» من ظروف تأتى من العصر ومن توازناته وما جاء فيه من تكنولوجيا، ومَن قاده من بشر. والواضح من تاريخ إنشاء المنظمتين وموقعهما بين بكين وشنغهاى أنهما تعبران عن القوة الصينية الصاعدة، التي حاولت الجمع بين الأضداد مثل الهند وباكستان، والصين ذاتها والهند، وروسيا وأربع دول من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق. ومع انضمام إيران إلى منظمة شنغهاى، فإن طابورًا طويلًا من دول الشرق الأوسط، مثل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، تتأهب هي الأخرى للانضمام إلى المنظمة. ورغم هذه التناقضات، فإن جاذبية المنظمتين تظل قائمة، ربما لأنهما تمثلان الصوت المراجع في العالم، فإنهما ربما تكونان جسرًا لحل العديد من المعضلات الدولية.
السؤال المهم هنا هو: مادامت الصين هي المحور الأساسى للمنظمتين، كما أن الأغراض واحدة تتعلق بمراجعة النظام الاقتصادى العالمى، فلماذا تكون هناك منظمتان للقيام بذات المهمة؟. المرجح هو أولًا أن العباءة السياسية الصينية ليست لها أطراف أيديولوجية ضاغطة على الدول الأعضاء للقيام بسياسات تخشاها. وثانيًا أن ما يجمع الجمع في شنغهاى وبكين هو موقف من النظام الدولى والولايات المتحدة بوجه خاص، ولكل عضو منها قضيته الخاصة مع واشنطن. وثالثًا فيما يبدو أن هناك ناديين من الدول أحدهما يضم دول «البريكس» الخمس ذات الحجم الكبير من السكان والمكانة في الناتج المحلى الإجمالى. والآخر في منظمة شنغهاى، الأكثر مرونة في ضم الأعضاء، وعندما عقدت اجتماعها الأخير في نيودلهى فإن الاجتماع جرى افتراضيًّا عبر تقنية «الزووم»، وتم التصويت بالموافقة على ضم إيران. ورابعًا أن التنظيمين لا يمثلان تحالفًا دوليًّا من أي نوع، وإنما هما أشبه بتنظيمات «عدم الانحياز» و«الحياد الإيجابى» وتجمع الدول «الأفرو آسيوية»، التي حاولت خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى أن تلعب دورًا في تصفية الاستعمار من دول العالم الثالث، والتخفيف من حدة التوتر الدولى بين حلف الأطلنطى ووارسو.
المنظمتان ليست لهما أبعاد أمنية، على الأقل حتى المرحلة الراهنة من عمرهما، وبشكل ما، فإنهما تركزان على التشاور بين الأعضاء، وربما إضافة ساحات لحل المشكلات بينها. وربما كانت المهمة الأساسية هي إقامة الفارق مع المنظمات الغربية، التي تبدو فيها القيادة الأمريكية فاتحة شكل هرمى بين الأعضاء تحاول الصين ألّا تكون هي الدولة المماثلة. وعلى نفس المسار فإن المنظمتين تركزان على جانب التنوع الثقافى، والقبول بأشكال مختلفة من النظم السياسية، ومن ثَمَّ فإن التأكيد على الفكرة «الديمقراطية» لا يوجد له وجود، بينما يكون التأكيد واضحًا على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. التأثير هنا غير ملموس، ولكنه قائم حيث النموذج الصينى في التنمية زاعق أمام كل الدول باعتباره ثورة كبيرة في مجال التنمية السريعة والمستدامة. ولعل ذلك يبدو واضحًا من خلال بنوك التنمية، التي وإن كانت لا تزال في بداياتها الأولى، وأنها تبتعد عن كونها المنافس لصندوق النقد الدولى، فإن المتصور أنها قابلة للنمو في المهام والوظائف.
المنظمتان في عمومهما تجمعان الدول التي لا تشغلها الهموم الغربية في السياسة ولا في الاقتصاد، وحتى المرحلة الحالية من بناء المنظمتين، والتى يمكن وصفها بمرحلة «التكوين»، فإن تفاوتات القوة، ربما ليس في المستقبل البعيد، سوف تفرض نفسها. وهنا توجد أكثر من ساحة في هذا المجال، أولاها ربما تكون بين الصين وروسيا، حيث بات ظاهرًا أن هذه الأخيرة تتراجع مكانتها العالمية مع حربها في أوكرانيا، بينما تسير الصين في سلم الصعود، وساعدتها الأزمات العالمية والكونية في أن تكون هي بغير منازع القوة العظمى الثانية في العالم. وثانيتها أن الهند والصين بينهما تاريخ من النزاعات الحدودية والثقافية، ومؤخرًا، تعدت الهند الصين باعتبارها الدولة الأكثر سكانًا في العالم، كما أنها أنفقت كثيرًا على النمو العسكرى خلال المرحلة الأخيرة. والولايات المتحدة لا تزال تعتبر الهند الدولة الأقرب «الديمقراطية» في مواجهة الصين. وثالثتها أن دخول إيران إلى منظمة شنغهاى ربما يكون فاتحة دخول «الأيديولوجيا» إلى ساحة المنظمة، خاصة بعد الدخول القريب لعدد من دول الخليج العربية. ورابعتها، وربما لا تكون الأخيرة، أن الغرب الذي قامت المنظمتان بالمناوَأة معه، خاصة على صعيد الاقتصاد العالمى، لم يتوقف بعد- سواء من خلال حلف الأطلنطى أو الاتحاد الأوروبى أو تحالف إيكوس- عن بناء الكثير من الأرصدة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية المغرية لأعضاء المنظمتين.