بقلم - عبد المنعم سعيد
فى مقال «بول لندن»، فى دورية The Hill، التى تصدر عن الكونجرس الأمريكى، تحت عنوان: «توازن القوى ليس حلًّا عسكريًّا»، كتب ما يلى: الأمير «تاليران»، الدبلوماسى العبقرى، الذى خدم فى أربع حكومات فرنسية، فى أخريات وبواكير القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لخص الدرس المهم، كما نقل عنه أنه قال به لسيده «نابليون»: «إنك يا سيدى تستطيع أن تفعل بسونكيات البنادق أى شىء، ما عدا أن تجلس عليها».
إن رئيس الوزراء واليمين الإسرائيلى قد حاولوا الجلوس على السونكيات لأكثر من عشرين عامًا؛ وكان 7 أكتوبر وحرب غزة هى النتيجة.
والسونكيات هى جمع «سونكى»، وهو رأس الحربة، الذى بات يُلحق بالبنادق لكى يُستخدم بمنزلة الحَرْبَة فى المعركة لطعن الخصوم، بعد أن تنفد ذخيرة البارود من البندقية، التى كانت محدودة، ويحتاج الجندى بعدها إلى استخدام الأداة التقليدية للحرب كما جرى فى العصور القديمة. الترجمة العربية ربما تكون أكثر حكمة فى أنه من حق القادة استخدام القوة كما يشاءون للعنف والغزو والاحتلال والسيطرة والهيمنة؛ ولكنهم سوف يظلون جالسين على «خازوق» القوة لسنوات طويلة لينتهى بهم الأمر إلى مواجهة حقيقة الخسران المبين.
«نابليون» أخذته القوة عبر القارة الأوروبية إلى موسكو فى أقصى الشرق لكى يعود مهزومًا، وبعدها ينتهى به الحال إلى هزائم أكبر، ثم سجنه وعودته مرة أخرى على حاله، فينهزم مرة أخرى ويعود إلى سجن يموت فيه.
«بول لندن»، مؤلف المقال، ذكر أن الولايات المتحدة عاشت على الخازوق ذاته فى فيتنام، حيث خدم لفترة من الزمن ليكتشف فيها أن القوة العسكرية ليست حلًّا لمعضلات كبرى، كان ممكنًا مواجهتها بالحكمة السياسية، التى تأتى من إدراك الحقائق الموضوعية فى الواقع. تكرر الخازوق ذاته مرة أخرى فى أفغانستان والعراق، وجلست عليه الإدارات الأمريكية المختلفة لأنها تصورت أولًا أن القوة العسكرية يمكنها حسم كل شىء؛ وثانيًا أنها تقف إلى جانب التاريخ، حيث الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية باهرة ومثمرة. نابليون وأقرانه كانوا يناضلون من أجل المجد الشخصى ومجد الثورة الفرنسية معًا، وفى النهاية خسر وخسرت معه فرنسا كلها.
إسرائيل تحت قيادة «نتنياهو» ومعه اليمين الإسرائيلى منذ بداية القرن الحالى فشلوا تمامًا فى فهم توازنات القوى الجارية لأنهم اعتقدوا فى تفوق إسرائيلى حاسم فى كل شىء من الوحدة الداخلية والتفوق والمنعة التسليحية والتكنولوجية؛ وفى المقابل لا توجد إلا حالة من الخيبة والتخلف وعدم القدرة العسكرية. ساد الظن بأن فى ذلك «ردعًا» بما فيه الكفاية، وأن الخصم، وهو فى هذه الحالة مجمع من الفلسطينيين وخصوم آخرين تقودهم إيران، لديه من الوهن والضعف ما يجعله يخاف الإقدام، فإذا ما تهور وقام بالهجوم فإن الإبادة الجماعية سوف تكون الثمن. فى الواقع كانت النتيجة أعقد من ذلك، وهى أن إسرائيل باتت معلمًا للفلسطينيين، وعندما قضى «يحيى السنوار» 22 عامًا فى سجون إسرائيلية، فإنه قضاها فى دراسة إسرائيل. الأمر بعد ذلك تفاصيل، فقد تغيرت توازنات القوى، ولم يعد الفارق كما كان، وفشلت إسرائيل فى إدراك ما حدث ليس فقط فى 7 أكتوبر، وإنما فى إدراك ما حدث بعد ذلك فى طول مدة الحرب أكبر من كل التوقيتات التى وضعتها إسرائيل لنفسها. الأمر كله كان يمكن تفاديه إذا ما طبقت إسرائيل اتفاقيات أوسلو، وقامت الدولة الفلسطينية.
حكمة «تاليران» لا تصدق فقط على نتنياهو وجماعته، وإنما أيضًا على الفلسطينيين من حماس والجماعات الأخرى وقياداتهم، التى لا تدرك التناقض القائم ما بين إعلان «النصر» العسكرى على إسرائيل، وهزيمة هذه الأخيرة وتهاويها؛ بينما فى ذات الوقت يطلبون وقف إطلاق النار الفورى والشامل، وكأنهم يشفقون على إسرائيل من الهزيمة والتماسك والصمود. وإذا كانت إسرائيل لابد لها من إدراك أن الشعب الفلسطينى سوف يظل باقيًا حيًّا فى الجوار، وحتى داخل إسرائيل نفسها؛ فإن القيادة الفلسطينية عليها أن تعرف حقيقة الدولة الإسرائيلية وقدرتها على الاستمرار واعتلاء المنافسة الدولية اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وقدراتها فى التحالف مع القوى العالمية. الشعبان الفلسطينى والإسرائيلى هما من حقائق الأرض التى لا يمكن تجاهلها أو تصور أنه يمكن إخضاعها؛ وبعد 75 عامًا من مولد الدولة الإسرائيلية، فإن الثابت أنها فى حقيقتها لا تُقام كاملة إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية، واعترافها بندية وجود الدولة الإسرائيلية. فيما عدا ذلك فإنه لا يوجد سوى سراب القوة، سواء كانت متفوقة بالقدرات النووية أو تجد فى الضعف قوة الاستنزاف للآخر؛ وهو الذى يصل بعد ذلك إلى صراع لا ينضب وقوده من الكراهية والرفض.