بقلم - عبد المنعم سعيد
بعد نصف القرن على حرب أكتوبر، لا تزال أصداؤها قائمة لا تغفل عنها شاشات السينما ولا صفحات الصحف. في الصفحات الأخيرة من كتاب «الملاك» ليورى بن جوزيف، وفى فصل «الملاك الساقط»، ورد اسم د. عبدالمنعم سعيد في السياق التالى: «إن منتجى برنامج ٦٠ دقيقة (برنامج أمريكى شهير تبثه شبكة CBS)، والذين أعدوا فقرة عن أشرف مروان، حاولوا لأسابيع أن يجدوا إجابة مصرية عن أسئلة تتعلق بعمله بالموساد دون جدوى. قبل ذلك، وفى تساؤلات مبكرة، فإن الرسميين المصريين قدموا نظرية عنصر المخابرات الذي خدع الإسرائيليين، ولكنهم لم يكونوا على استعداد أن يقولوا شيئًا أمام الكاميرا. في النهاية، فإن الموقف المصرى قدمه د. عبدالمنعم سعيد، مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ«الأهرام»، والذى ادّعى أن (مروان) كان محورًا مركزيًّا من الجهد المصرى لخداع الإسرائيليين، وبدونه لم يكن أمام الجيش المصرى فرصة لهزيمة جيش الدفاع الإسرائيلى. ولم يقدم، على أي حال، أدلة على هذا الادعاء. إن تعليقات (سعيد) التي أُذيعت في مايو ٢٠٠٩ كانت أقرب التعبيرات للخط الرسمى المصرى منذ أعلن (الرئيس) مبارك (أنه لم يكن جاسوسًا لأى وكالة)».
ما لم يذكره المؤلف هو أن تسجيل د. عبدالمنعم سعيد مع الشبكة الأمريكية جرى في واحدة من قاعات مكتبة جامعة هارفارد في سبتمبر ٢٠٠٨، ولمدة ٨٠ دقيقة، عرض فيها كل مبررات وجهة النظر هذه، ولكن ما أُذيع منها لم يزد على ٩٠ ثانية، كانت وحدها في مواجهة عدد غير قليل تجعله عميلًا إسرائيليًّا، وشغلت من الوقت أكثر من نصف الساعة. مدى أمانة الشبكة التلفزيونية ليست هي الموضوع، وإنما الحقيقة التي تشير إلى أن كتاب «بن جوزيف» ليس بالضرورة من وضع مؤلفه، بل إنه على الأرجح من وضع «الموساد»، الذي يبدو في الكتاب وكأنه يلعب وحده في ميدان حرب خسرها، ولا يزال حائرًا عما إذا كانت إسرائيل قد تعرضت لخداع قاتل أم لا.
إن الدفع بأن السلطات المصرية، والمقصود بها المخابرات العامة، لم تقدم دلائل كافية على وجهة نظرها، ليس حجة في سياق أي عمل مخابراتى لأن النشر من عدمه هو جزء من العملية ذاتها؛ وإذا كان القلق قادمًا من الطرف الآخر فإنه لا توجد منفعة عملياتية في إراحته من القلق، فالقول «دعهم يخمنون» جزء من عالم الخداع تكتيكيًّا كان أو استراتيجيًّا؛ ورسميًّا فإن الموقف المصرى أن أشرف مروان بطل وطنى كانت له مبرراته التي يعرفها الإسرائيليون، والمتعلقة بتزويد الجيش المصرى بأسلحة غربية ذات كفاءات عالية، كانت في المقدمة منها صفقة «الميراج» الفرنسية.
المعضلة الإسرائيلية فيما يتعلق بموضوع أشرف مروان أن إسرائيل لا تريد الاعتراف بالعبقرية المصرية في خطة الخداع الاستراتيجى، التي قامت على أساس أخطاء هيكلية في التفكير الاستراتيجى الإسرائيلى، وتلاعبت بها الخطة المصرية بوسائل، كانت واحدة منها ليست فقط أشرف مروان، وإنما أيضًا رفعت الجمال، (المعروف برأفت الهجان). الخطأ الهيكلى جاء من حقيقة أن إسرائيل عرفت بالفعل بموعد الحرب، من مصدر عربى، قبل أيام من نشوب الحرب؛ وفى العاشرة من مساء الخامس من أكتوبر بتوقيت لندن ١٩٧٣ أخبرها «مروان» بموعد الحرب في اليوم التالى مع تحديد ساعتها بالسادسة مساء وليس الثانية بعد الظهر. ومع تلك المعرفة، فإن إسرائيل لم تبدأ التعبئة العامة ولا استدعاء الاحتياطى إلا في التاسعة من صباح ٦ أكتوبر، رغم اعتراضات موشى ديان، وزير الدفاع، الذي لم يكن مقتنعًا بأن مصر سوف تخوض الحرب، وأن إعلان التعبئة ربما يثير شكوكًا بأن إسرائيل هي التي بدأت الحرب؛ وأن الأفضل هو أن تدع إسرائيل مصر تفعلها، ثم يجرى تدميرها بعد ذلك. وكانت الخطة المصرية في قلبها أن أفضل خطط الخداع تحدث عندما يظن الخصم أن ما يأتى إليه من معلومات هو من الجودة بحيث يصعب تصديقها!.
في الكتاب وفى السجل الإسرائيلى لم يكن هناك تقدير لحجم التغيير الذي جرى على القوات المصرية بعد هزيمة يونيو؛ ولم يجْرِ تقييم جدى لمعركة رأس العش أو لغرق المدمرة إيلات، ولا حرب الاستنزاف، ولا التغييرات التي جرت للبنية البشرية للقوات المسلحة ولا لطبيعة تسليحها. كانت لإسرائيل نظرة دونية للجندى المصرى؛ فلم يكن في الواقع العملى لكل الحركة المستمرة لأشرف مروان إلا أن تكون تحت إشراف المخابرات المصرية. الطريف أن إسرائيل فسرت قيادة سائق السفارة المصرية لعربة توصيل مروان إلى مكان اجتماع كدليل على مهارته وليس لأن السائق جاء لتأمينه. وأنه فيما بات معروفًا بـ«عملية روما»، لم يكن من الممكن نقل صواريخ مضادة للطائرات في حقيبة إلى روما على طائرات مصر للطيران، ومن خلال مطار القاهرة الدولى، كدليل على قدراته الفذة؛ وليس لأن ذلك تم بمعرفة المخابرات المصرية وتحت نظرها وإعطائه الفرصة للدخول والخروج من العاصمة الإيطالية، وإعطاء الأمان والثقة في مروان لدى الموساد. لقد تصور الإسرائيليون أنهم وحدهم لديهم علاقات مع المخابرات الإيطالية، ولذا فإنهم لم يقدروا أن كل ذلك كان جزءًا من شبكة مصرية عميقة لتأمين العمليات المصرية المقبلة، ولم يكن بوسع مروان الوصول إليها دون تسهيلات السلطات، التي وضعت له واحدًا من أكثر رجالها مهارة- عبدالسلام المحجوب- لكى يشرف على إعداد وتنفيذ عملياته.
لم يكن للاضطراب أن يحدث في قصة «أشرف مروان» لو أن القضية كلها وُضعت في إطار «المفاجأة الاستراتيجية» التي حققتها مصر وسوريا في حرب أكتوبر ١٩٧٣. مفاجأة أكتوبر كان فيها من كل العناصر المتوفرة في الفكر الاستراتيجى عن تحقيق «المفاجأة الاستراتيجية»، وما كان على أشرف مروان إلا تغذية ما لدى إسرائيل بالفعل من تحيزات فكرية حول ما يعتقدون عن مدى عزم القيادة المصرية. وعندما جرت مناورات مايو ١٩٧٣ التي أبلغ بها مروان إسرائيل بأنها الحرب، فإنه كان مقبولًا منه بعد ذلك أن يفسر عدم حدوثها بأن السادات «ثقلت رجله» على عكس الواقع الذي كان أنها للإعداد للحرب والتدريب على عبور الحواجز المائية. الحديث المستمر عن الخلافات المصرية السوفيتية جعل إسرائيل تفسر جلاء أهالى الدبلوماسيين السوفييت من القاهرة قبل الحرب مباشرة على أنه كان مجرد «أزمة عربية سوفيتية» أخرى. وعندما أبلغ مروان إسرائيل بموعد الحرب فقد كان يعلم أن الساعة منتصف الليل بتوقيت القدس، وأن الليلة هي ليلة عيد الغفران التي جعلت وصول الخبر متأخرًا أمرًا متوقعًا، حتى إن وزير الدفاع موشى ديان لم يعرف إلا في الساعة الرابعة صباحًا. كان الهدف ليس الإبلاغ عن الحرب، وإنما تأخير عملية التعبئة الإسرائيلية حتى يتم العبور، مع الإبقاء على مصداقية أشرف مروان. قصة مروان ليست فيلمًا، وإنما هي جزء لا يتجزأ من معركة وطنية وشرط من شروط «المفاجأة الاستراتيجية» لحرب عظيمة.