بقلم - عبد المنعم سعيد
«الإشكالية» في البحث العلمى أكثر شمولًا من «المشكلة» لأن هذه الأخيرة أكثر تحديدًا، ومتغيراتها محدودة، وإمكانيات التعامل معها متاحة بتكلفة معقولة، كما أنها تقع في سلم الأولويات للفرد أو للدولة أو للعالم بشكل يمكن حسابه. الأولى أكثر تعقيدًا، وفى الأغلب هي مركب من المشكلات، التي إذا ما عولجت واحدة منها تفتق عنها عدد من المشكلات الأخرى، ربما الأكثر قسوة واستعصاء على الحل. هي ظاهرة كاملة من العقبات التي تتبادل التأثير فيما بينها، فإذا ما تم حل واحدة منها تغير الواقع كله خارجًا بالقضية بأسرها إلى مجال جديد من الإشكاليات.
واحدة من هذه «الإشكاليات» المركبة ناقشها مجلس الشيوخ، في جلسات الأسبوع الماضى، عندما جرَت مناقشة دراسة «ظاهرة العنف الأسرى: الأسباب والآثار وسبل المواجهة». الدراسة عُرضت في شكل تقرير قدمته لجنة حقوق الإنسان والتضامن الاجتماعى بالمجلس، بمشاركة من مكاتب لجان الشؤون الدستورية والتشريعية والثقافة والسياحة والآثار والإعلام والشؤون الدينية والأوقاف. وقدم التقرير المهندس محمد هيبة، رئيس لجنة حقوق الإنسان، معبرًا عن سلسلة من اللقاءات بين هذه الكتيبة من أعضاء المجلس، مضافًا لها أكثر من كتيبة أخرى تمثل كافة أجهزة الدولة المعنية بالأمر. الظاهرة التي عالجها التقرير هي الزيادة الملحوظة في حوادث العنف الأسرى على مستوى العالم مقاسًا بالمقارنة بين عامى ٢٠١٩ (قبل الجائحة) و٢٠٢٠ (بعد الجائحة بعام)، وبحسب تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان، فقد وُجدت زيادة بنسبة ٢٠% في حوادث العنف الأسرى بالدول الأعضاء في الأمم المتحدة (١٩٣ دولة) خلال عمليات الإغلاق بسبب جائحة الكورونا.
.. التقرير هكذا ضرب في الصميم مقولات ذاعت إبان البلاء بأنه أما وأن البلاء قد جمع أفراد الأسرة معًا بسبب القيود التي فرضتها الأزمة، فإن «العنف الأسرى» سوف يتقلص نتيجة الاقتراب والتفاهم المتوقع والوقت المتاح لحل المشكلات المستعصية.
الشائع هو أن مصر لم تكن استثناء مما يجرى في العالم، وطالها أيضًا ذلك الاستحكام الذي طال قضية العنف الأسرى في العالم؛ ولكن الحقيقة تبدو مغايرة لذلك. وطبقًا لما جاء في التقرير، فإن «لجنة رصد وتحليل أسباب بعض الجرائم بالمجتمع المصرى»، والتى تشكلت بموجب قرار من وزيرة التضامن الاجتماعى، رصدت «انخفاض» إجمالى جرائم الجنايات والسرقات المهمة والعنف ضد المرأة والطفل والجرائم الأسرية خلال عام ٢٠٢٠ مقارنة بعام ٢٠١٩ بنسبة ١٤.٩٪ وكذلك خلال عام ٢٠٢١ مقارنة بعام ٢٠٢٠ بنسبة ٢.٧٪. الإحصاءات التي أصدرتها وزارة العدل تشير بوضوح إلى أن الأوضاع في مصر ملتبسة من حيث قضايا العنف الأسرى أمام المحاكم المصرية المرفوعة في عام ٢٠٢١- ٢٠٢٢، حيث نجد زيادة في عدد القضايا المرفوعة من الزوجة ضد الزوج، بينما انخفضت القضايا المرفوعة من الزوج ضد الزوجة. كذلك فقد تفاوتت نسب الانخفاض أو الارتفاع أمام محاكم الأسرة، و«تخلو أغلب محاكم محافظات الصعيد من قضايا العنف الأسرى»، كما تخلو محافظتا الدقهلية وبورسعيد وشمال سيناء من العنف الأسرى. البحث الصادر عن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بعنوان «العنف في الحياة اليومية في المجتمع المصرى»، والذى صدر عام ٢٠٢٢، رصد وجود زيادة في المشادات الكلامية بين الأزواج قدرها ١٥.١٪ مقارنة بدراسة مماثلة جرَت في عام ٢٠٠٢ قبل عشرين عامًا، وأرجعت الدراسة ذلك إلى التطور التكنولوجى والانفتاح على مجتمعات أخرى. «المسح الصحى للأسرة المصرية» عام ٢٠٢١ الصادر عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، والذى جرى فيه بحث ظاهرة الختان باعتبارها مظهرًا من مظاهر العنف الأسرى، كانت نتيجة البحث هي انخفاض نسبة الختان بين السيدات والبنات. وأشار البحث أيضًا إلى انخفاض استخدام أساليب التربية العنيفة للأطفال في الأسرة المصرية.
الاستثناء من هذه الدراسات جاء في استطلاع الرأى الذي أجراه المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» ٢٠٢٠، والذى توصل إلى أن العنف بين أفراد الأسرة سواء جسديًّا بين الزوجين أو من الأبوين للأولاد قد زاد بنسبة ١٩٪ عام ٢٠٢٠ خلال أزمة جائحة الكورونا. ولكن هذا الاستثناء ربما يدفع إلى المزيد من بحث الظاهرة من خلال استطلاعات مباشرة للرأى العام، ولكن النتيجة العامة لكل الدراسات مجتمعة تقود إلى نتيجتين: أولاهما أن هناك أزمة «عنف أسرى» في مصر، ولكنها تتباين بين المحافظات والمناطق. وثانيتهما أن هذه الظاهرة لم تتزايد نتيجة جائحة الكورونا، وأن مصر على الأرجح شكلت استثناء من الظاهرة العالمية، كما حدث بالنسبة للنمو الاقتصادى، الذي استمرت معدلاته إيجابية، وهو ما لم يحدث إلا في عدد محدود من دول العالم. الأمر المهم هنا، والذى لا يمكن إغفاله، هو أن عدم مسايرة النتائج المصرية للنتائج العالمية يشير إلى نجاعة الأساليب التي تقدمها الدولة المصرية، وخاصة وزارة الشؤون الاجتماعية، لمعالجة ظاهرة خطيرة ودفعها إما إلى التباطؤ أو التراجع.
وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا إذن توجد تلك الحالة من التشاؤم المتعلقة بالعنف الأسرى في مصر، والذى ظهر بشكل كبير في مناقشات مجلس الشيوخ، والانطباعات الشائعة في المجتمع المصرى؟. لجنة حقوق الإنسان بالمجلس أجرَت استطلاعًا للرأى العام، فوجدت أن ٧١٪ مقابل ٢١٪ من المصريين يرفضون سلوك العنف الأسرى، بينما رأى ٥٤٪ أن العنف الأسرى منتشر بدرجة ما داخل المجتمع مقابل ٤٦٪ ذكروا أنه منتشر بدرجة كبيرة. هذه الفجوة الكبيرة بين «الرأى» برفض العنف الأسرى، والتصور بأنه منتشر وشائع توضح الحالة القلقة للتعامل مع الموضوع لدى المواطن المصرى. وهو قلق يمكن إرجاعه إلى أن قضية العنف الأسرى ترجع كما هو الحال مع إشكاليات مصرية أخرى إلى حزمة الأسباب التي يمكن ذكرها فيما يتعلق بالمشكلات والمعضلات المصرية المختلفة، ممثلة في الزيادة السكانية والفقر وانتشار الأمية والضغوط الدولية والعقبات والمفاجآت، التي تواجه عملية التنمية، وتجعلها لا تنضج بالسرعة الكافية لتلافى الإشكاليات المختلفة وتتجاوزها.
ظاهرة «العنف الأسرى» يستعصى التعامل معها كلما تباطأت عملية التنمية، ولكنها تأخذ في التراجع عندما تتزايد وتتسارع معدلات نموها، وتجرى قفزة في طاقات المجتمع، فتشحب تأثيرات الإشكاليات الأخرى المشار إليها. ويبقى بعد ذلك أن أحد العناصر المهمة التي جرى تناولها في مجلس الشيوخ يتعلق بالإعلام والفنون بشكل عام، بما فيها لعب الأطفال. ولكن هناك حقائق ينبغى التنبه لها في هذا الصدد: أولاها أن الإعلام والفنون لها وظائفها الخاصة داخل المجتمع، وهى تدور حول استقصاء حالة المجتمع كما هي ودون إضافات تجميلية. وثانيتها أن الإعلام قد بات ظاهرة عالمية وإقليمية وافتراضية بقدر ما هي حقيقية. وثالثتها أن مصر مندرجة بالفعل في ثورة رقمية هدفها تحديث البلاد ورفعها إلى مصافّ الدول المتقدمة. ورابعتها أن التطورات التكنولوجية في العالم تجرى بسرعات غير معتادة تاريخيًّا، وهى في حقيقتها مثل النار يمكنها أن تحرق، ويمكنها أن تكون بردًا وسلامًا على مستخدميها تنمى ضميرهم في رفض العنف سواء كان للأسرة أو لغيرها.