مصر وجغرافيتها السياسية ٢٠٢٤

مصر وجغرافيتها السياسية ٢٠٢٤

المغرب اليوم -

مصر وجغرافيتها السياسية ٢٠٢٤

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

نقل عن الرئيس الفرنسى شارل ديجول أنه كان فى أى موضوع يناقشه مع ضيوفه من القادة والزعماء يطلب من مساعديه «الخريطة» التى تعينه على فهم الموضوع أو صياغة تعليقه. لم يكن الرجل مختلفا عن أبناء عصره من قادة النصف الأول من القرن العشرين عندما كانت «الجغرافيا السياسية» هى المنهج الرئيسى فى فهم العلاقات الدولية والتى بدأت فى محاولة فهم الفارق فى الأهمية بين القوتين البحرية والبرية ومدى تأثيرها على الحرب والسلام. وظل ذلك قائما رغم أن الحرب العالمية الأولى أضافت بعدا آخر هو القوة الجوية، وفى الحرب العالمية الثانية تأكد ذلك مع كثير من التكنولوجيات الجديدة التى جعلت الحرب أكثر سرعة وقسوة. وجاء استخدام السلاح النووى فى هيروشيما وناجازاكى لكى يجعل الحرب مستحيلة فى ظاهرها، لكنها مرنة فى جوهرها بعد أن تدخلت الصواريخ فى ساحات الصراع التى تعلقت بالحرب الباردة. العقود الخمسة الأخيرة أدخلت أشكالا غير الدول فى الصراعات الدولية، وكان للشرق الأوسط نصيب كبير منها، ومن وقتها بدأت «الجغرافيا السياسية» فى الاضمحلال بعد أن اختفى الإقليم الذى كان يحددها قربا وبعدا من الحلفاء والخصوم. ومع تضاؤل حكم الإقليم فى التفاعلات الدولية انحسر الكثير من مبادئ الردع، ومن بعده قواعد ونظم ما يسمى النظام الدولى ومعه نظم إقليمية عديدة.

مصر عاشت فى كل هذه العصور، وكانت لها معركتها مع الاستعمار الإنجليزى، ومن بعده الصراع مع إسرائيل وما انتهى إليه من سلام بارد اختلط أحيانا بنوبات من الدفء فى إقليم مضطرب. كان د. جمال حمدان أول من وضع نظرية متكاملة حول مصر وجغرافيتها السياسية فيما سماه «عبقرية المكان» الذى بشكل أو بآخر تشكلت فيه «الشخصية المصرية». النظرية كانت عبقرية أيضا فى تحديد المجال الذى تعمل فيه مصر والذى رغم وجود دوائر أخرى فإن الدائرة العربية كانت لها أولوية، مرة فى الحرب، ومرة أخرى فى السلام. كان المكون الديمغرافى لمصر يضيف ثقلا آخر لثقلها الجغرافى حيث خلق لها مجالا خاصا فى العمل من ناحية، ومجالا آخر فى العلم والثقافة والحداثة من ناحية أخرى. وعندما بلغت الخصومة مبلغها بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وحتى انتقلت الجامعة العربية إلى تونس، فإن مصر ظلت على جاذبيتها على كل من حولها. كانت توازنات القوى لاتزال تعمل لصالح مصر، ولم يكن التأثير النفطى كما هو الآن، ولا الاتجاهات نحو التحديث قد تعمقت فى الإقليم كما هو فى الوقت الراهن، ولا كان الانتشار بتنظيمات وحركات سياسية وإرهابية كالتى نراها فى هذا الزمن.

ما تقودنا إليه هذه المقدمة التى طالت أكثر مما ينبغى أنه ربما آن الأوان لكى نستدعى الخرائط كما كان يفعل ديجول لكى نرى ما يحيط بعبقرية المكان المصرى من واقع، وكيف نتعامل معه. ما يجب تسجيله هو أن استدعاء الماضى أيا كان موضعه مع الزمن ربما يكون مفيدا لقياس المسافة التى قطعها عصرنا وآن الأوان لإدراك معنى هذه المسافة وقدرها. وعلى سبيل المثال فإن أستاذ جيلنا محمد حسنين هيكل نشر مقالا مهما عام ١٩٦٨ حول السياسة الخارجية المصرية فى مجلة «الشؤون الخارجية الأمريكية» أوضح فيه قراءته للتاريخ، حيث كان التهديد يأتى لمصر من اتجاه الشمال حيث جاء الهيلينيون والرومان والصليبيون والفرنسيون والإنجليز، ومن الشرق، أو الشمال الشرقى تحديدا عبر سيناء، من الهكسوس والحيثيين والفرس والتتار والعرب والعثمانيين. لم يتحدث الأستاذ عن الغرب كمصدر للتهديد، ربما لأنه كان فى عصور قديمة، لكنه عند الحديث عن الجنوب الذى يأتى منه الماء للنيل ذكر أن توازن القوى عبر العصور كان حاسما لصالح مصر إلى الدرجة التى لا تجعله ملحا.

الآن فإن الصورة مختلفة حيث تتدفق التهديدات للأمن المصرى من الاتجاهات الأربعة ربما لخصتها المرات التى أطلق فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى ثلاثة خطوط حمراء: الأول الذى أطلقه إزاء عبور قوات عسكرية من قبل ميليشيات مدعومة من تركيا لخط «سرت - الجفرة» فى ليبيا فى اتجاه بنى غازى ثم الحدود المصرية، والثانى كان إزاء ما قامت به إثيوبيا من بناء غير مشروع لسد النهضة وتهديدها نصيب مصر من مياه النيل، هذه المرة فإن التهديد صريح من الجنوب الذى ربما يزيده تعقيدا الآن الحرب الأهلية السودانية التى دفعت مئات الآلاف من السودانيين تجاه الحدود المصرية، والثالث جاء مع حرب غزة الخامسة وقيام إسرائيل بعمليات الإبادة الجماعية ودفع الفلسطينيين فى غزة باتجاه الحدود المصرية، ولم يتحرج أفراد بارزون من الحكومة الإسرائيلية فى الحديث عن هذا التوجه باعتباره أمرا واقعا. هنا فإن الخط الأحمر المصرى كان بأن مثل ذلك لا يمكن السماح به وإذا كانت إسرائيل مصممة عليه فلتحول الفلسطينيين إلى صحراء النقب التى كانت فلسطينية حتى عام ١٩٤٨. الرابع لم يصدر بشأنه بيان بخط أحمر بعد، وهو يأتى من الشرق حيث يوجد العنفوان الإسرائيلى غير المحسوب مختلطا بحالة عميقة من احتمالات التصعيد مع لبنان وسوريا والعراق وإيران تدفع بشررها فى جميع الاتجاهات، وما أصاب مصر مباشرة كان ما قام به الحوثيون من تهديد الملاحة والتجارة الدولية فى البحر الأحمر وهو تهديد لقناة السويس ومصر.

هذا التدافع الساخن من الجبهات الأربع لمصر يضغط عليها بأشكال شتى، لكنه أيضا يأتيها وهى أكثر استعدادا للتعامل مع أوضاع ساخنة ومعقدة. ورغم أن «الربيع العربى» المصرى أضاع عليها ثلاث سنوات من العنف والاضطراب، إلا أنه تركها بعد أن نجحت فى صد الهجمة الإخوانية وتابعيها من المنظمات الإرهابية. وعلى مدى السنوات الثمانى الماضية فإن عمليات البناء الضخمة التى تولتها قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى غيرت مصر التى يجرى بناؤها على مدى آلاف السنين من حيث الانتقال الملموس من وحدانية وادى النيل إلى انتقال عمرانى من النهر الخالد إلى بحار الأبيض والأحمر الواسعة. السياسة الدفاعية المصرية أقامت مدنا دفاعية فى الساحل الشمالى (قاعدة محمد نجيب) وأخرى على ساحل البحر الأحمر (قاعدة برنيس)، وأصبح الأسطول المصرى من القدرة بحيث باتت له قيادة أسطول جنوبى يطل على البحر الأحمر ومن ورائه القرن الإفريقى. لكن أكبر خطوط مصر الدفاعية تمثل فى سياستها الخارجية القائمة على التوازن الدقيق بين القوى الكبرى والعظمى، والاحتراف الثمين لإدارة حروب وأزمات الإقليم كما حدث مع حروب غزة ولبنان المتكررة، وأن تكون مصر قادرة على خلق بدائل للحركة تستند إلى بنيتها الداخلية القومية. وعلى سبيل المثال فإن التعامل مع المراوغة الإثيوبية فيما يخص مياه النيل لم يأت فقط من خلال المواجهة السياسية مع إثيوبيا، وإنما من خلال التحول الكبير أيضا من إدارة مياه النيل إلى إدارة المياه فى مصر عامة، وكل ذلك دون التنازل عن حقوق مصر التاريخية فى مياه النيل. والحديث متصل

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصر وجغرافيتها السياسية ٢٠٢٤ مصر وجغرافيتها السياسية ٢٠٢٤



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:41 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
المغرب اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 08:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 09:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها
المغرب اليوم - نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها

GMT 10:24 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
المغرب اليوم - نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 13:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية
المغرب اليوم - خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية

GMT 17:10 2017 الإثنين ,24 إبريل / نيسان

مصطفى قمر ضيف غادة عادل في "تعشب شاي"

GMT 07:37 2017 الخميس ,15 حزيران / يونيو

الأناقة تغيب عن ملابس الرجال في أسبوع موضة لندن

GMT 20:46 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

أخطاء يفضل تجنبها في ديكور المنزل العصري

GMT 10:58 2021 الثلاثاء ,13 تموز / يوليو

ريال مدريد يتحرك لضم موهبة برشلونة خاومي جاردي

GMT 20:19 2018 الأربعاء ,13 حزيران / يونيو

الكشف عن أسباب تراجع أسعار النفط عالميًا

GMT 15:58 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

محمد أوزال يكشف عن سعادته بثقة الرجاويين

GMT 06:17 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

"Pop.Up Next" السيارة الطائرة بمقصورة الركاب المميزة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib