بقلم - عبد المنعم سعيد
الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر اليوم تقوم على الفارق بين ما نحتاجه من العملات الأجنبية لاستيراد سلع ضرورية لسد الاحتياجات المحلية وتشغيل عجلة الإنتاج من السلع والخدمات التي كثيرا ما تعتمد على مكونات أجنبية، وما هو متاح من مصادر الحصول على هذه العملات. التعامل مع هذه الحالة، منطقيا، يأتى من خلال زيادة القدرة على سد هذا الفارق أو العجز من خلال عملية التنمية الواسعة والشاملة في البلاد، بحيث تزيد القدرة على تجاوز الحاجات السكانية المتزايدة من ناحية، وتسمح بسد هذه الفجوة بين الموارد والإنفاق من ناحية أخرى. ما حدث خلال السنوات السبع الماضية زاد كثيرا من القدرات والموارد المصرية، لكن هذه الزيادة باتت الآن، على ضوء الأزمات العالمية في مجالات الطاقة والغذاء، تمثل ضغطا كبيرا على مواردنا. صحيح أنه جرت نتائج مشجعة من أول الزيادة الملموسة في الناتج المحلى الإجمالى، إلى ارتفاع العائد من المشروعات القومية التي جرت في قناة السويس فزادت إيراداتها، ومن الغاز فانطلقت عوائدها، لكن رغم ما تحقق فإن الحاجة لاتزال قائمة لتسديد الديون، وحماية عملية التنمية من الانتكاسة والتراجع. ولعل ذلك يكمن في المحافظة الجارية على الانتهاء من المشروعات العملاقة، واستكمال البنية الأساسية لكى تصل إلى كل شبر من أرض مصر. هذا الاختيار الشجاع يتطلب اختيارات شجاعة أخرى، ورد بعضها في وثيقة ملكية الدولة، وبعضها الآخر بات ملحا على إصلاح الجهاز الإدارى للدولة، ومضافا إليه مضاعفة الجهد في المجالات سريعة العائد، وفى مقدمتها تنمية الصادرات وسد العجز في الميزان التجارى، وتشجيع السياحة رغم كل الأزمات العالمية الجارية. فالحقيقة هي أن هناك دولا كثيرة نجحت في زيادة عائدها السياحى، وما يرد إليها من سائحين، ومنها دول عربية مجاورة يمكن أن نتعلم منها دروسا مفيدة. فلا شك أن لدينا قاعدة كبيرة من «المحتوى السياحى»، سواء الثقافى أو الترفيهى أو المتنوع بين أشكال كثيرة من المتعة، لكن الحقيقة أن عائدها حتى الآن أقل كثيرا مما نحتاجه.
الإطلال على التجربة العربية من دبى إلى مراكش يقدم الكثير من النماذج الناجحة، وفى دول الخليج العربى، خاصة حيث الظروف المناخية غير مواتية، وهناك ندرة في المناطق والآثار التاريخية، فإن دولا مثل الإمارات وقطر والبحرين نجحت في أن تجعل حلم تنويع مصادر دخلها، بعيدا عن النفط، حقيقة واقعة من مصادر سياحية. القصة في هذا الأمر متعددة الأبعاد، ولها عمق تاريخى مختلف من بلد إلى آخر، لكن التعريف بالدولة أولا كان مهمًا، بدأ في قطر باستضافة بطولة عالمية للعبة الاسكواش والتنس، وانتهى باستضافة كأس العالم لكرة القدم، وكلها تختلف عن تراث سباق الجمال والخيل التاريخيين. تجربة دبى، ومن بعدها أبوظبى وباقى الإمارات السبع لدولة الإمارات، مثلت تجربة مثيرة جعلت نصيب النفط من الناتج المحلى الإجمالى لا يزيد على ٢٦٪ مضافا إلى مساحات واسعة من السياحة والصناعة واستضافة أشكال مختلفة من التكنولوجيات الحديثة. ببساطة أصبحت هذه الدول الخليجية أشبه بسفينة نوح التي تحتوى على كل شعوب العالم، يمرون عليها ويمكثون فيها. مؤخرا فإن دول الخليج بدأت في وضع سياسات سكانية تقوم على الاستزادة من الكفاءات العالمية من خلال العيش طويل الزمن، أو التوطين طالما أنه يقدم إلى زيادة القدرة الاقتصادية للدولة.
التجربة السعودية، وهى إحدى التجارب الخليجية التي بدأت فقط منذ عام ٢٠١٥، وقبلها كان معلوما أن الثروة السعودية قامت في الأساس على النفط والبتروكيماويات، وفى الكتب الدراسية كان مضافا التمور والسياحة الدينية إلى المواطن المقدسة. ما عدا ذلك كانت الحياة في المملكة بعيدة عن كل ما هو سياحى، كما هو معروف عالميا، من حيث التقاليد الاجتماعية والثقافة المحلية ذات الطبيعة المحافظة. خلال السنوات السبع الماضية، ومع رؤية السعودية ٢٠٣٠ تغيرت الصورة تماما بوضع أسس بناء الدولة الوطنية ابتداء من الغوص في البحث عن التاريخ السعودى ما قبل الإسلام، والارتكاز إلى التأسيس الأول للمملكة، لكى يبدأ من الدولة السعودية الأولى في عام ١٧٢٧، ثم بعد ذلك الارتكاز إلى أن الدولة قوامها بر وبحر، والبر أكثر من ٢ مليون كيلومتر مربع، والبحر يحيط بالمملكة لكى تكون شبه جزيرة العرب الغنية بثقافاتها الممتدة إلى دول عربية أخرى، وتقاليدها الممتدة إلى العالم المعاصر بكافة أبعاده. كانت المهمة هي خلق «الطلب السياحى» على الدولة، فامتدت البنية الأساسية لكى تشمل الفنون والآداب والثقافة والترفيه الذي بات حقا إنسانيا، وليس نوعا من «اللغو». استغلت الدولة كل شىء لجذب الآخرين لها بالعمارة التي تدخل السباق العالمى بمدينة «نيوم» وتوابعها وفروعها، والجذب السكانى للمتميزين من سكان الكوكب، والترفيه بكافة أنواعه برا وبحرا. ولا يكاد يمر يوم في الدولة دون مهرجان للتمور، وآخر للرمان، والثالث للغناء، والرابع للشعر، ومؤتمر للاستدامة، ومهرجان هائل للمبتكرين الشباب في العالم.
البقية ربما تحتاج مقالا منفردا عن التجربة القريبة منا عبر البحر الأحمر وخليج العقبة، لكن ما يجمع السعودية ودول الخليج المشار إليها أنها أولا أقامت بنية أساسية لا تكتفى بإبهار الرخام اللامع، وإنما تسهيل الطريق للسائح القادم منذ تطأ قدماه الأرض حتى خروجه إلى داخل البلاد، ومواطنها السياحية. هنا لا توجد لا أوراق ولا استمارات ولا شهادات للبراءة من أمور غير معلومة، وكل ما هو مطلوب جواز السفر بداخله الفيزا الرسمية وتقديم المسافر أو العابر بصماته. وحتى في هذه الأمور فإن هناك تسهيلات لمن هم من دول الخليج، والقادمين من الاتحاد الأوروبى أو يحملون فيزات الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، ودول جرى معها اتفاقيات متبادلة الحقوق والواجبات، ويكفى أن مواطنيها يريدون الزيارة أو السياحة أو التسوق. وثانيا الاعتماد الكبير على الاحتراف وجذب الخبرات الأجنبية لكى تدير تلك الساحة المتسعة من الفنادق والمطاعم والمقاهى المناسبة لكافة الأهواء والعقول. وثالثا الاعتماد في كل ذلك على أرقى ما وصلت إليه التكنولوجيا، فالحقيقة هي أنه لا توجد مغامرات أمنية، وإنما هناك أدوات فائقة السرعة تحمل البصمات والصور إلى قواعد كبرى للبيانات في العالم كله، خاصة المتعلقة بالجريمة أو الإرهاب لكى تكشف المجرم وتميز الصالح. الفكرة الأساسية هنا، كما هو الحال في الدول السياحية العظمى، هي أن سكان الكرة الأرضية الأغلبية الساحقة منهم طيبون، والسائح، بحكم التعريف، هو الشخص الذي يبحث عن الراحة والاستجمام والمتعة والصفاء الروحى، وباختصار السعادة. المجرمون والإرهابيون والمزعجون بأشكال مختلفة أقلية لا ينبغى أن تعطى حق الاعتراض على بقية سكان الكوكب الذين يجرى استثارة خيالهم بفرص السعادة المتاحة أمامهم من خلال وسائل متعددة، قد يكون منها بناء أبراج هي الأولى في العالم، وأفلام تجرى مغامراتها في برج «خليفة» أو دروب قصر الإمارات، أو أمام مدينة «الخط» على حافة جبل شاهق. التجربة القريبة منا تحتاج الدراسة.