بقلم - عبد المنعم سعيد
فى واحدة من جلسات مجلس الشيوخ لمناقشة قانون خاص بالعمل، طلبت من الزميل رجل الأعمال أن يعبر عن آرائه مباشرة فى الجلسة العامة التى تناقش كما هى العادة القانون «من حيث المبدأ»، ثم بعد ذلك تجرى مراجعة مواد القانون واحدة بعد الأخرى حتى يجرى إقراره أو رفضه. لم يُصغ الزميل لما طرحته عليه، مؤكدًا أنه فى الواقع العملى فإن صاحب العمل يعطى ما هو أكثر من المزايا التى يسعى إليها القانون لأنه الأقرب إلى الواقع، ويعرف نوعية الحوافز التى تزيد الإنتاجية وبالتالى ترفع التصدير. لم يكن ذلك جديدًا فى التجربة النيابية الحالية، ولا تلك التى شاركت فيها من قبل من خلال «مجلس الشورى»، والتى تجاورت فيها مع رجل الأعمال القدير، محمد فريد خميس، رحمه الله، المسؤول عن لجنة الصناعة، وكان عليه إعداد تقرير عن «تعمير سيناء». ولفت نظرى أن المشروع المقدم وقتها وضع دور «القطاع الخاص» فى آخر قائمة المطلوب منهم المشاركة، وفى عبارة مقتضبة بدَت لى ساعتها كما لو كانت نوعًا من إبراء الذمة وليست دعوة إلى دور محدد وواسع.
وقبل أسبوعين، كتبت فى هذا المقام مقالًا عن مذكرات د. رؤوف غبور «خبرات ووصايا»، التى حكى فيها عن تاريخ رأسمالى مصرى خلال العقود الأربعة الماضية. وكان أهم ما لفت نظرى فى المذكرات التقييم الذى قدمه للشركات الخاصة المصرية، التى رأى أن عدد ما ترتقى فيها إلى المستويات العالمية فى التنظيم والعمل والحداثة فى الرقى والحوكمة والشفافية لا يتعدى عشرًا فقط من الشركات. وللأسف، فإنه لم يتفضل بأسمائها، والمرجح أن ذلك كان لكى لا يجرح أو يصنف طرفًا فى السوق المصرية قد لا يحب ذلك ولا يرغب فيه.
اقرأ المزيد..
ولكن بعيدًا عن الحساسيات الشخصية، فإن هذه المعلومات بالغة الأهمية لما يجرى فى مصر الآن من دعوة إلى دور أكبر للقطاع «الخاص» أو «رجال الأعمال»، وكلاهما يُستخدم بديلًا لصفة الرأسمالية، التى تُعد فى كل بلاد العالم المتقدم أو الساعى للتقدم الحلقة الرئيسية فى عملية التغيير والابتكار والتحديث. ورغم السمعة غير الحميدة عن الرأسمالية فى المجتمعات التى جنحت إلى الجانب الاشتراكى أو أخذت جانب البلدان الاشتراكية فى مسيرتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإنها فى الواقع كانت الآلة الأساسية فى عملية التقدم الإنسانى عبر الثورات الصناعية المختلفة خلال القرنين الماضيين. وفى الوقت الراهن فإنها باتت المفتاح كما حدث فى التجارب الآسيوية المختلفة لما جرى فى بلدان اشتدت فيها حالة البؤس وأحيانًا المجاعة إلى تخريج ما هو أكثر من مليار نسمة من دائرة الفقر إلى الستر والغنى. الصين والهند ودول أخرى فى هذا المجال أصبحت مشهورة بتجربتها الرأسمالية سواء من حيث التنظيم الاقتصادى أو الاكتفاء الذاتى من السلع الغذائية الرئيسية، أو من تصدير منتجاتها الصناعية بكثافة إلى الخارج. فى الدول الغربية المتقدمة انتقلت الطبقة الرأسمالية من حالة إلى أخرى، بدأت بتصنيع المنتجات الزراعية للغزل والنسيج وما أشبه، ثم الصناعات التحويلية من حديد وصلب وألومنيوم وأسمدة وغيرها غيّرت فيها العالم كله فى الإنتاج والاستهلاك معًا. المرحلة الجديدة من الرأسمالية فى المجتمعات المتقدمة أو الساعية للتقدم تراجعت فيها شركات السيارات والنفط، التى سادت فى العقود الثالثة التالية للحرب العالمية الثانية، لكى تحل محلها الشركات «الرقمية» و«الافتراضية»، مثل «أبل» و«مايكروسوفت» و«أمازون» وكل مَن عبر التريليون دولار من حيث القيمة السوقية.
الآن فإن إدراك هذه القيمة التاريخية للرأسمالية داخل مصر فرض نفسه فى الاجتماعات التى أجراها الرئيس السيسى مع مجموعات من رجال الأعمال، والدعوة المستمرة منه ومن رئيس الوزراء إلى المزيد من المشاركة فى العملية التاريخية الجارية فى مصر الآن، وبما كانت له من محورية فى الحوار الاقتصادى، ومن بعده على الأرجح خلال الحوار الوطنى. الحلقة المفقودة الأولى أنه وسط كل هذه الدعوات لا نكاد نسمع صوتًا، أو نرى صورة، لهذه الجماعة المُقدَّر لها أن تكون فى قلب عملية الانتقال من حالة الجمهورية المصرية التقليدية القائمة على إدارة الفقر إلى الحالة المتقدمة فى الجمهورية الجديدة القائمة على إدارة الثروة. والحلقة الثانية أنه وسط الترحيب الكبير بدور مهم للقطاع الخاص فإننا لا نعلم الكثير عن الدور الذى قام به هذا القطاع فى بناء المدن المصرية الجديدة، أو المشاركة فى إنشاء أنفاق قناة السويس العملاقة، أو كافة المشروعات العملاقة الأخرى. والحلقة الثالثة أن المنظمات المعبرة عن رجال الأعمال، مثل اتحاد الصناعات والغرف التجارية- وجميعها لها اجتهادات مهمة تعبر عن خبرات تاريخية وعالمية فى مجالات الإنتاج الصناعى والزراعات الحديثة والسياحة والتصدير- لا تجد لها منفذًا إلى الساحة الإعلامية المصرية. والحلقة الرابعة أن هناك القليل من الدراسات التى تُقيِّم أداء الرأسمالية المصرية خلال العقد الأخير من حيث قدراتها التنظيمية والتكنولوجية وقدراتها العامة المرتبطة بالعالم الحديث.
التعامل مع هذه الحلقات الغائبة جوهرى للمشروع الوطنى المصرى الحالى، الذى يمكن تفصيله فى السعى الدؤوب لبناء جمهورية جديدة ومتقدمة على النمط الذى سارت على دربه دول نامية مثلنا سواء كان ذلك فى آسيا أو فى قارات أخرى. هى جمهورية قادرة على التعامل مع حقائق العصر المتجسدة فى الداخل بعدد كبير من السكان؛ وفى الخارج مع عالم مضطرب ومتعدد الأزمات الدولية والعالمية. لتحقيق ذلك منطقيًّا، ونحن على بُعد ثمانى سنوات من إنجاز رؤية مصر ٢٠٣٠، نحتاج معدلات للنمو لا تقل عن ٧٪ سنويًّا؛ وهذه لن تحدث دون تعبئة موارد هائلة تأتى من كافة القطاعات الإنتاجية المصرية سواء جاءت من الدولة أو القوات المسلحة أو القطاع الخاص. مصر دولة كبيرة بسكانها ومساحتها وشواطئها، التى لا يمكن استغلالها دون دور محورى لرأسمالية مصرية قادرة وفاعلة ومشارِكة وغير مرتعشة.
ولكن الأمر لا يتوقف فقط على حدود الرأسمالية المصرية الحالية، التى نمَت خلال العقود الأربعة الماضية؛ وإنما بتوسيع وتشجيع التوسع فيها بعمليات الإدماج لإقامة شركات عملاقة تكون قادرة على البحوث والتطوير والمنافسة فى السوق العالمية. أو أن يكون ذلك من خلال الشركات الصغيرة والمتوسطة بالمعنى العالمى، الذى يتيح النمو المستمر إذا ما كان مستجيبًا للعملية التاريخية للانتقال من النهر إلى البحر، والجارية فى مصر الآن. مثل ذلك ممكن بنقل ملكية المزارع السمكية والصوب الزراعية والوحدات الخدمية إلى القطاع الخاص؛ أو من خلال اتباع المنهج الذى سنّته مارجريت تاتشر فى بريطانيا بطرح الشركات العامة كأسهم للشعب المصرى من خلال البورصة المصرية لكى تكون هناك بالفعل ملكية «عامة» للمصريين فى الأصول المصرية. لتكن المرحلة الحالية من المسيرة المصرية تجاوزًا لصعوبات جارية؛ وثورة على تقاليد مصرية طالت سلبًا القطاع الخاص والرأسمالية المصرية خلال العقود الأخيرة. لقد عوّدنا الرئيس السيسى على كثير من القدرة على الإنجاز، والآن جاء وقت مرحلة جديدة منها.