بقلم - عبد المنعم سعيد
كانت «النكسة» نوبة صحيان أصيلة حول المسارات التى ذهبت فيها مصر منذ منتصف الخمسينيات فى داخلها وإقليمها وعالمها؛ ومن بعدها بدأت عملية تصحيحية مع زعيمها جمال عبد الناصر ولكنها تأصلت على نطاق واسع مع الرئيس أنور السادات.
تواضعت الفكرة العروبية فانسحبت مصر من اليمن؛ وجرى تسليم القضية الفلسطينية لأصحابها الفلسطينيين فى منظمة التحرير الفلسطينية، وعاد اسم مصر لها من الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية. لم تعد مصر مشروعا عربيا للوحدة تتعدد نجماته الخضراء بعدد الدول المخلصة للوحدة والعروبة. باتت مصر دولة عربية مع ٢١ دولة أخرى؛ وبات هدفها إزالة آثار العدوان على مصر وتحقيق الانسحاب الإسرائيلى من سيناء.
كانت استراتيجية «الحرب المحدودة» التى بدأت مع الاشتباك فى رأس العش، إلى ما صار بعد ذلك حربا للاستنزاف كافية لإيقاظ النظام الدولى، واسترداد العزيمة المصرية متوقدة وساخنة وأحيانا ازدادت سخونتها فى الدعوة الفورية للقتال فى مظاهرات الطلبة فى فبراير ١٩٦٨ التى كان وقودها طلبة منظمة الشباب. العلاقة مع «القضية المركزية» باتت المساندة بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية والإعلامية؛ وتحمل المحاضرات التى يعطيها المناضلون الفلسطينيون من تنظيمات مختلفة للمسؤولين المصريين، ومعهم أمثالنا من الطلبة، أن إسرائيل تهديد رئيسى للأمن القومى المصرى!.
كان ذلك ما تعرفه مصر جيدا ولكن على الطريقة المصرية التى تعود إلى شعب له سماته المميزة عن الآخرين، ولديه رحابة من المصالح والتناقضات مع إسرائيل أعمق من حلها من خلال ميكروفونات الإذاعة. «حرب الاستنزاف» وضعت حدودها فى الانتصار عندما بدأت إسرائيل تشن غاراتها على الداخل المصرى، وعندما أنتجت مبادرة روجرز قبل عبد الناصر، واستمر السادات بعد ذلك على خطاه. وعندما تولى السلطة بدأ الإعداد لرباط أوسع ما بين السلاح والسياسة؛ وما بين الاستراتيجية قبلها للإعداد لمعركة كبرى، وما بعدها حيث يمكن استثمار ما جاء به السلاح.
تجديد وقف القتال الذى بدا كما لو كان إلى الأبد، وتسبب مرة أخرى فى مظاهرات الطلبة فى عام ١٩٧٢، أعطى المزيد من الفرصة للاستعداد العسكرى، وتعميق شبكات المخابرات والمعلومات، وخلق انطباعا عن مصر يخرجها من الجماعات العربية (والمصرية أيضا) ذات الحناجر العالية والتى أدخلت مصر إلى نطاق لعناتها. فيما بعد عندما نشر هنرى كيسنجر مذكراته الأولى جاء فيها أن أول ما لفت نظره بعد أن عرف بنشوب حرب أكتوبر أن تقريرا جاء له قائلا إن تغطية الإذاعة والصحف المصرية للحدث كانت مختلفة تماما وفيها الكثير من الحكمة والتواضع.
كان أكثر ما وظفته مصر فى حربها الكبرى هو قدرتها على الصبر، والتحكم فى الأعصاب والكلمات. فى الواقع أن واحدا من عشرات الأسباب لنصرنا كان الفشل الإسرائيلى فى التعلم من حرب الاستنزاف التى كان ممكنا لها أن تبصر بالتغيرات التى اعترت المقاتل والسلاح المصرى. كان التصور هو أن العمليات العسكرية ما هى إلا لإلهاء الجماهير، وإعطائها جرعات إضافية من الانفعال الذى لا يسفر عنه شىء فيما بعد.
وعندما حدثت «المفاجأة الاستراتيجية» كان واحدا من أسبابها أن مصر ظهرت عازفة عن القتال عندما اقترح الرئيس السادات فتح قناة السويس وإعادتها إلى العمل والتجارة الدولية. كانت مصر تعمل وهى تعرف أنها تصيب عصفورين بحجر واحد، ووفقا لتقرير لجهاز المخابرات المركزية الأمريكية بعد الحرب فإن وقوعها فى أسر المفاجأة كان بسبب أنها اتبعت تماما ما قاله لها جهاز المخابرات الإسرائيلى.
وما بات مهما بعد الحرب ليس أن يطرق الحديد وهو ساخن، وإنما فى القدرة المصرية على الإمساك بخيوط الفرص مع القوى الدولية المختلفة وتشجيعها على الاستمرار فى طريق تحقيق الهدف المصرى. وفى كل مرة وقعت فيها مصر على اتفاقية فصل القوات فى سيناء، فإن القوى الأيديولوجية «الحنجورية» راحت تؤكد أن ذلك هو نهاية المطاف، وأن الحدود الإسرائيلية أصبحت فى المرة الأولى بعد قناة السويس، وفى المرة الثانية عند خط المضايق فى سيناء.
وعندما بدا أن العالم يمكنه أن يذهب إلى مسارات أخرى، وذهب الرئيسان الأمريكيان نيكسون وفورد من بعده، جاء كارتر، فإن اقتراح الأخير لعقد مؤتمر دولى كان يعنى وضع قضية الأرض المصرية فى يد حقوق اعتراض «فيتو» فى يد الاتحاد السوفيتى وجميع القوى العربية التى تحارب بحناجرهم أكثر من عقولهم وسواعدهم. كان معلوما لدى الرئيس السادات أنه فى القضايا الكبرى إذا ما تركت «القضية»- وهى فى هذه الحالة الأرض المصرية المحتلة- فى يد آخرين فإنها تغيب فى غياهب النسيان.