بقلم - عبد المنعم سعيد
ربما تكون الأزمة التى ولدتها زيارة السيدة نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب الأمريكى إلى تايوان سببا فى إثارة الكثير من الغيوم على الموقف الصينى فى العلاقات الدولية. ولكن الأرجح أنه وقت نشر هذا المقال سوف تكون هذه الغيوم آخذة فى الانسحاب تدريجيا بعد أن يظهر لجميع خلق الله أن هذه لم تكن هى الزيارة الأولى للسيدة بيلوسي، ولا كانت هذه أولى الزيارات التى يقوم بها رئيس لمجلس النواب إلى العاصمة التايوانية تايبيه، أو قيادات أمريكية من نوع أو آخر خارج إطار السلطة التنفيذية. سوف يتضح كثيرا وبشكل صريح أن البيت الأبيض لم يكن مؤيدا للزيارة؛ وأنه منذ الإعلان عنها وهو يؤكد مرارا وتكرارا أن العلاقات الأمريكية الصينية تقوم على ذات الأسس الثابتة أهمها أن هناك (صينا واحدة) وأن الممثل لها فى الساحة الدولية هو جمهورية الصين الشعبية ذات المقعد الدائم فى مجلس الأمن الدولي، وما قضية تايوان إلا قضية تحل بالطرق السلمية كما حدث فى هونج كونج التى كانت بريطانية وماكاو البرتغالية من قبل. ولا بأس فى أن العالم سوف يأخذ درسا إضافيا فى النظام السياسى الأمريكى القائم على فصل السلطات؛ وأن الغضبة الصينية على السلوك الأمريكى ربما تكون مبررة على ضوء أن الزيارة قد تمت عقب الحديث المباشر بين الرئيسين الأمريكى جوزيف بايدن والصينى شى جين بينج، والعرض الصينى الكريم بالتعاون بين البلدين من أجل وضع نهاية لأزمة جائحة كوفيد-١٩ الذى لا يزال يعيث بالأرض وباء وبلاء.
كان مفترضا أن العالم كله يمر بمرحلة حساسة من تاريخه على ضوء الأزمة ثم الحرب الأوكرانية والتى وقفت فيها الصين موقفا متوازنا يرفض توسع حلف الأطلنطى وسياسة الأحلاف العسكرية فى مجملها من ناحية، ولكنه لا يقبل فى نفس الوقت بضم أراض أوكرانية إلى روسيا فى القرم أو فى الدونباس من ناحية أخري. كانت العلاقات الصينية الروسية قائمة على أساس من المصالح المشتركة لمراجعة النظام العالمي؛ وكذلك الحال فى العلاقات الصينية الأمريكية التى تصب فيها حقيقة أن الصين وأمريكا هما أعظم القوى الاقتصادية فى العالم.
التقدير هنا أن أزمة زيارة السيدة بيلوسى سوف تكون عارضة لأن العالم بعدها سوف يجد أن الطريق إلى بكين هو الذى يمهد لفرصة لإنقاذ العالم من المأساة التى يعيشها الآن. فالحقيقة هى أن روسيا أخذت العالم كله فى وقت الجائحة إلى أزمة كبرى سرعان ما أثرت على الاقتصاد العالمى كله فارضة عليه التراجع والتضخم وارتفاع الأسعار. باختصار ضاعت الأحلام الإنسانية فى أن يأتى عصر من الانتعاش الاقتصادى بعد تراجع البلاء لأن الرد الغربى على اجتياح أوكرانيا لم يكن سوى فرض العقوبات على روسيا التى انتهت بخسائر فادحة على فارض العقوبة ومتلقيها معا. الصين المراقبة لذلك كله تعلم جيدا أنها الآن باتت متوجة كقوة عظمى عالمية ليس فقط بالطريقة التى تعاملت بها مع الجائحة، وإنما لأنها دلفت إلى حالة من الانتعاش الاقتصادى تحسد عليها. بالنسبة للصين فإنها كانت متطلعة لكى تستأنف مسيرتها التى داخليا معناها المضى قدما فى معدلات نموها العالية المتجاوزة ٦٪ سنويا، وفى اختراقها لعالم التكنولوجيات الدقيقة على الأرض وفى الفضاء الخارجي. لم تعد الصين باختصار بلد ألعاب الأطفال البلاستيكية، أو الملابس الرخيصة، أو الأجهزة المنزلية سيئة السمعة، وإنما باتت بلدا ينافس منافسة جادة فى عالم السيارات بما فيها الكهربائية، ومؤخرا الطائرات التجارية، والسير فى الفضاء الخارجي. مبادرة الحزام والطريق أعطت مفهوما جديدا للعولمة يقوم على حث القدرات الإنتاجية العالمية للخروج من الفقر والفاقة؛ مضافا لها موقفا إيجابيا من المنظمات الدولية والسعى إلى تطويرها بحيث تستوعب المزيد من قدرات البشر على الابتكار والإبداع.
وصول الصين إلى هذه المكانة الدولية، وعلاقاتها المتوازنة مع دول العالم بين روسيا والدول الأوروبية، وفى الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران والدول العربية، وفى آسيا بين الهند وباكستان، وبين دول البريكس ـ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا ـ وبقية العالم. الواضح للجميع أن الصين لا تأتى إلى العالم لكى تعيد تشكيله على هوى أيديولوجى يخصها، وإنما تأتى إليه للتخلص من مشكلات لا تبدأ بالفقر ولا تنتهى بالوباء. موقفها الراهن من الأزمات العالمية، وفى مقدمتها الأزمة الأوكرانية بكل نتائجها الاستراتيجية والاقتصادية اعطى الصين مكانة خاصة فى العمل على حلها. ومن ناحية فإن الصين لها مصلحة كبرى فى حل الأزمة لأنها قطعت طرقا عديدة على مسار الصين فى اكتساب مكانة الدولة العظمى إلى جانب الولايات المتحدة فى قيادة النظام العالمى الذى بات محتاجا بشدة للمنهج (الاقتصادوي) القائم على الإنجاز والعمل الشاق والمنضبط واقتصاديات السوق المفتوحة. ومن ناحية أخرى فإن للعالم مصلحة فى الوصول إلى تسوية للأزمة الأوكرانية تبقى أوكرانيا كدولة ذات سيادة، وتهدئ من الروع الروسى من التوسعية الأطلنطية.
والحقيقة هى أنه لدى الصين أوراقها المؤثرة تجاه الطرفين، فبدون بعض من الحنو الصينى تجاه روسيا باستيراد بترولها، والرفض البات لسياسة الأحلاف العسكرية فى أوروبا أو فى منطقة الإندوباسفيك فإن موقف روسيا فى الحرب سوف يكون أكثر حرجا. وعلى الجانب الآخر فى الولايات المتحدة وحلفائها فإن الاعتماد المتبادل الكثيف مع الصين إلى درجة لم توجد من قبل فى التاريخ فى التجارة والصناعة والتكنولوجيا؛ سوف يجعل العنوان الصينى ضروريا للتوصل إلى حل حتميا. كان ذلك قريبا قبل أيام من زيارة بيلوسى السخيفة التى قطعت حبل الاتصالات والتقارب؛ فهل يمكن لنا فى مصر بالتعاون مع دول مثلنا أن نصل أيضا إلى ذات العنوان حتى نخرج جميعا من الأزمة؟!.