بقلم - عبد المنعم سعيد
تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية يمتلئ بالمفاجآت غير المتوقعة إلى تهتز لها العملية المؤسسية لاختيار الرئيس، التى يفترض فيها أنها عملية أولا مستقرة تدور فى مدار السنوات الأربع؛ وثانيا أن الإعداد لها بات مبكرا للغاية وبعد ذلك تكون هناك مسيرة للانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطى والجمهورى؛ وفيما بين التمهيدى للأحزاب، والمباراة النهائية بين مرشحى الحزبين، توجد أشكال مختلفة من المناظرات بعضها فى السياسات الداخلية، وبعضها الآخر فى السياسات الخارجية، وأحيانا كلاهما فى مناظرة واحدة. وثالثا أن المشاركة فى الانتخابات تعنى التواجد داخل عملية صناعية للرئيس فى شكله ومضمونه، من أول كتابة الخطابات وحتى المشاركة فى مؤتمرات صحفية، والإعلانات التلفزيونية والصحفية، والمناورة مع الخصوم وإحراجهم وإشهار ما خفى عنهم وما كان من أسرار. وبقدر ما تكون الانتخابات عملية أشبه بالزلزال الذى ترتج له الأمة الأمريكية وحلفاؤها وأعداؤها؛ فإنه يبدو مهرجانا كبيرا يدور كما لو كان جزءا من أفلام مثيرة، يقوم على سباق بشرى يلهث الناس حوله انتظارا لمن يكون فائزا فى نهاية المطاف. ونظرا لكل ما فى ذلك من إثارة؛ فإنه عند هذه اللحظة التى ينتهى فيها كل ذلك، تبدأ عملية تحديد أركان الإثارة المقبلة.
لقد كان هناك العديد من الانتخابات التى جرت خلال الفترة القصيرة الماضية فى الدول الأوروبية وفى إيران وفرنسا والمملكة المتحدة والهند، ومع ذلك فإن أيا منها لم يلق الاهتمام الذى لقيته الانتخابات الأمريكية وما تعيش فيه من فصول. وفى الشهر الماضى فقط كانت المناظرة بين الرئيسين الحالى بايدن والسابق ترامب هى القصة الرئيسية فى الانتخابات الأمريكية؛ ومن عجب أن المتابعين لها سوف يفشلون تماما فى معرفة ما الذى جرى فى المناظرة بعد أن غطى على كل ما قيل ما كان من أداء الرئيس بايدن الذى فضلا عن تحركاته «الروبوتية» عند الدخول والخروج فإنه تلعثم كثيرا، وخلط الأمور. وعندما قال ترامب على الجانب الآخر الكثير من الأكاذيب المكشوفة فإن أحدا لم يجد صبرا لتتبعها بينما قصة الرئيس بايدن تطورت إلى رواية الحزب الديمقراطى الذى لا يعرف ما الذى يفعله مع بايدن الذى اختارته بالفعل القاعدة الجماهيرية للحزب وبنسبة الـ ٨٧٪ غير المسبوقة فى الانتخابات التمهيدية. الرئيس لم يسعده الحظ فيكون أكثر تماسكا وانضباطا، وحتى حينما كان مؤتمر حلف الأطلنطى منعقدا بمناسبة مرور ٧٥ عاما على إنشائه لم يكن بقدرة بايدن التحكم فى ألفاظه حتى إنه خلط بين الرئيس الأوكرانى زيلينسكى والرئيس الروسى بوتين. أصبح الأمر بمثابة أزمة داخل الحزب الديمقراطى بين من يتمسكون بالرئيس مرشحا، ومن يطالبون باختيار آخر يتيح للحزب فرصة للفوز فى الانتخابات المقبلة. المعضلة أن السير فى هذا الاتجاه يخلق أزمات إضافية بين المؤيدين والمعارضين لهذا المرشح أو ذاك، وعندما يستقر الأمر نسبيا على نائبة الرئيس «كامالا هاريس» فإن التساؤل يصير عما إذا كانت قد فعلت شيئا يذكر خلال سنواتها فى العمل يعطيها الحق فى الترشح لقيادة البلاد.
وسط هذا اللغط الكبير الذى إلى حد كبير كان واقعه يسير فى صالح المرشح الآخر دونالد ترامب، الذى كان واقعا فى أسر أحكام واتهامات قضائية تكفى لجعله فى المكانة الأضعف من الميزان الانتخابى؛ فإن محاولة الاغتيال للمرشح الجمهورى والرئيس السابق قلبت الأوضاع أكثر مما هى مقلوبة وجعلته فى مشهد الفائز. ترامب المدرب على المشاهد التلفزيونية، وانتهازى المواقف التى تستدعى التلقائية والقدرة على اقتناص الفرص. فى هذه اللحظة يوجد فيها أيضا الجنرال «حظ» الذى جعل الرصاصة تخدش طرف أذنه خدشا يكفى لانبثاق كمية كافية من الدماء تلوث قميصه ووجهة تظهر أمام الكاميرات فى مشهد تاريخى؛ وفى نفس الوقت فإن سلامته جعلته يعقد قبضته مطالبا الجماهير المذهولة بالقتال صائحا: Fight. وسط هذه الأجواء انعقد مؤتمر الحزب الجمهورى بلا منافسة على الإطلاق، وفضلا عن اختيار «جى دى فانس» نائبا للرئيس فإن المؤتمر بات نوعا من حفل زفاف الرئيس السابق إلى البيت الأبيض مرة أخرى. كان طبيعيا بعد ذلك أن ترفع استطلاعات الرأى العام من مكانة ترامب وتخرج بها من نقاط ست يمكن السباق فيها أو تجاوزها قبل موعد الانتخابات عندما يقضى القضاء بأحكام واتهامات. ولكن ترامب كان حتى فى ذلك محظوظا إلى حد كبير حينما حكمت قاضية قام ترامب بتعيينها بالحكم ببراءته فى قضية الوثائق الرئاسية التى أخذها دون وجه حق من البيت الأبيض إلى منزله فى «مارا لاجو»- فلوريدا- استنادا إلى رأى قانونى أبداه أحد قضاة المحكمة الدستورية العليا المحافظين. أما المحكمة وأغلبية ستة محافظين عين ترامب ثلاثة منهم أثناء فترته الرئاسية ضد ثلاثة من القضاة الليبراليين، فقد جاء الحكم بأن الدستور يعطى حصانة مطلقة للرئيس فى سلوكياته وأقواله الرسمية؛ وهو الأمر الذى جعل ترامب يفترض براءته من كل الاتهامات الأخرى.
كل هذه الرياح تصب فى قلاع الرئيس السابق دونالد ترامب، فضلا عما كان لديه بالفعل أولا من التفاف كبير من الحزب الجمهورى حوله وحول قاعدته الانتخابية التى استمدها من جماعات متطرفة أخرى؛ وثانيا التخلص من أعباء الادعاءات والأحكام القضائية؛ وثالثا أن موقف منافسه فى البيت الأبيض مضطرب فى معظم الأحوال، وهذا الاضطراب قابل للمضاعفة خلال الفترة المقبلة بفعل الضغوط الحزبية والانتخابية، فضلا عن حالته الصحية، وعجزه العام عن بلورة أفكار تصلح لشرح ما تحقق من إنجازات وما ينوى إنجازه إذا ما فاز. ورابعا أن الإعلام الأمريكى والجماعات السياسية المختلفة يبدو عليها علامات التسليم الذى يجعل ترامب فى البيت الأبيض نوعا من حتمية زمنية بقدر ما هى قدرية. ورغم أن كل ذلك ممكن إلا أن احتمالات تراجع كل ذلك ممكن أيضا إذا ما توافرت شروط أخرى منها أن قضايا ترامب لا تزال أكثر من المغفرة، وأن الحزب الديمقراطى لديه قاعدته التى لا تتخلى عنه، وأن بايدن سياسى عنيد لديه فى ذهن الرأى العام صورة المجرب والنزيه وصاحب الخبرة فى عالم صعب. ترامب على العكس منذ بدايته فى الساحة السياسية عبر عن شخصية ساعية لأشكال كثيرة من المُربِكات Disruptions فى الحياة السياسية الأمريكية وفى العالم أيضا. تاريخ ترامب خلال ولايته الأولى لم يكن إيجابيا، وفى سلبياته كان كارثيا حينما كان متأخرا كثيرا فى معالجة جائحة الكورونا، كما أن موقفه من حلفاء الولايات المتحدة فى حلف الأطلنطى ومع حلفائها فى شرق وجنوب شرق آسيا لم يكن مشرفا خاصة فى علاقاته مع كوريا الشمالية.
التوازن بين كل ذلك يصعب حسابه الآن، ولكن المؤكد أنه فى لحظة كتابة هذا المقال كان الميزان مائلا لصالح ترامب، ولكن كما بدأنا الكتابة فإن مفاجآت الانتخابات الأمريكية كثيرة بقدر ما كان فيها من محاولات الاغتيال والعنف.