حينما يُكتب تاريخ القرن الواحد والعشرين فإن العقد الحالى الثالث منه سوف يشهد أن الفكرة الديمقراطية جرَت عليها مراجعة كبيرة، بعد عقود من الازدهار بدأت منذ نهاية الحرب الباردة فى نهاية العقد الثامن من القرن العشرين. ولثلاثة عقود تقريبًا، بدَت الديمقراطية حلًّا لكل مشكلات الكون، من الفقر إلى المساواة إلى حل الصراع العربى الإسرائيلى إلى إقامة السلام والعدالة على الأرض.
قامت «الفكرة الديمقراطية» على قواعد، أولاها مركزية دور الفرد فى السياسة والاقتصاد والمجتمع؛ وثانيتها أن الأفراد يشكلون سوقًا فيما بينهم تجرى عليها ما يجرى على السوق من قواعد العرض والطلب، وإذا كان المال هو أساس التداول فى اقتصاديات السوق، فإن أغلبية «الأصوات» هى أساس الحكم فى السياسة؛ وثالثتها أن تداول السلطة يجرى بين «الأغلبية» و«الأقلية» استنادًا إلى توافق وطنى على أساسيات القرار يأخذ شكل تفاهم عام أو وثيقة دستورية.
للأمر تفاصيل، ولكن الأصل فيها أنها تكفى البشر شر النزاع والصراع، وتدفع الأكفأ منهم إلى الصفوف المتقدمة للثروة والسلطة، وتعطى الفرصة للأقل نصيبًا أن يحصل على الفرصة فى دورة ديمقراطية تالية من الانتخابات. خلال هذه العقود الثلاثة من ذيوع وهيمنة الفكرة على النظام العالمى بعد هزيمة «الاشتراكية» وانهيارها مع الاتحاد السوفيتى، فإنها باتت سلاحًا أخلاقيًّا يُستخدم لغزو دول وشعوب.
ومن الثابت أن الولايات المتحدة، بعد اليقين من أن عراق صدام حسين لم يكن يمتلك سلاحًا نوويًّا كان سببًا فى غزوها؛ فإن السبب تغير إلى غياب الديمقراطية، وجرى تعميمه بعد ذلك على الشرق الأوسط كله. الفكرة أينعت إلى حد كبير لدى النخب السياسية فى الإقليم، ووجدت أصداء واسعة بين الشباب، الذى سرعان ما سُميت انتفاضاته «الربيع العربى».
.. الذى لم ينقضِ وقت طويل حتى تحول إلى هيمنة الإخوان المسلمين فى بلاد، وحروب أهلية فى بلاد أخرى، وحالة من عدم الاستقرار والاضطراب فى كل البلاد.
تغير الموقف كثيرًا من «الفكرة» مع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وفى استطلاع للرأى نشرته شبكة «بى. بى. سى» اللندنية، استنادًا إلى «المقياس أو الباروميتر» العربى، وجدت أن الأغلبية فى دول العراق وتونس وليبيا والأردن وموريتانيا ولبنان ومصر والأراضى الفلسطينية ترى فى الديمقراطية معوقًا للنمو الاقتصادى، حيث اقتصاد الدولة يمثل تحديًا أكثر خطورة من «جائحة كوفيد ١٩».
وعبّرت الأغلبية عن احتياجها إلى «الرجل القوى» القادر على الإنجاز. وفى العراق كانت نسبة الموافقين على هذا الطرح ٨٧٪، وفى تونس ٨١٪، وفى لبنان ٧٣٪، وهى دول مارست بالفعل التجربة الديمقراطية وفق قواعدها الأساسية.
ولكن المنعطف لم يكن قائمًا فى الدول العربية وحدها، بل إنه بزغ بشكل كبير مع الصعود الكبير للصين خلال السنوات الأخيرة، حيث بدَت تجربتها، مع التجربة الآسيوية فى العموم، تجعل من الكفاءة والإنجاز معيارًا متقدمًا فى سلامة الحكم وإدارة الدولة. وبدا ذلك بشكل ما ردًّا على الطرح الأمريكى للإدارة الديمقراطية الحالية، التى قسّمت العالم إلى «ديمقراطيين وسلطويين»، حيث يقع الأولون فى دائرة الملائكة، بينما الآخرون فى دائرة الشياطين.
المنعطف الديمقراطى خلال العقد الجارى يجد تغذيته فى كثير من التجارب العالمية الديمقراطية، التى تقع فى مقدمتها التجربة الأمريكية ذاتها خلال المرحلة الحالية. من ناحية بدا التوافق الأمريكى فى أمر السياسة الخارجية الأمريكية على سبيل المثال مرفوعًا عن الممارسة بين إدارات متنوعة بين جورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وجوزيف بايدن.
فى السياسة الداخلية، التى كانت دومًا مستندة إلى الشرعية التاريخية للدستور الأمريكى، أصبح التوافق مصابًا بخلل كبير، كان أبرز مظاهره مؤخرًا فى أحكام المحكمة الدستورية العليا، التى كانت دومًا صمام الأمان بالنسبة للانتخابات العامة والقوانين والتشريعات، التى لا يمكن ربطها بالسياسات الخاصة بكل إدارة أمريكية. قيام المحكمة مؤخرًا بإصدار قانون فيدرالى بإلغاء القانون الخاص بإباحة الإجهاض فتح الباب لإلغاء قوانين أخرى لحمل السلاح، وقواعد الانتخابات الأمريكية وسبل التصديق عليها والإقرار بشرعيتها.
لم تعد للمحكمة تلك القدسية الفيدرالية التى كانت لها من قبل، وكل ذلك لأنه فى عهد أحد الرؤساء- دونالد ترامب- دخل ثلاثة من القضاة المحافظين جدًّا إلى المحكمة، مما يجعلها طَيِّعة للكثير من التطرف اليمينى المحافظ خلال فترة طويلة قادمة. والأكثر خطورة أن إلغاء القوانين الفيدرالية قد يصبح عادة سياسية عندما تنقلب وتتقلب الأحوال مرة أخرى بين الجمهوريين والديمقراطيين.
الاضطراب الجارى فى النظام السياسى الأمريكى- والمحتمل امتداده لفترة قادمة طويلة قد تبدأ مع انتخابات التجديد النصفى فى نوفمبر القادم، أو تتأخر قليلًا حتى الانتخابات الرئاسية القادمة فى ٢٠٢٤، والمتوقع أن يكون دونالد ترامب أحد نجومها- ليس حادثًا فى أمريكا وحدها، وإنما يجرى مثله فى ديمقراطيات عريقة أخرى. «البريكسيت» شكّل انقلابًا كبيرًا فى السياسة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبى نتيجة سياسات «شعبوية» آنية يثبت الآن بعد تجربة «جائحة كوفيد ١٩»، والحرب الروسية الأوكرانية، أنه أضعف ليس فقط بريطانيا، وإنما أوروبا كلها اقتصاديًّا وسياسيًّا واستراتيجيًّا. امتداد الوهن الديمقراطى الأمريكى إلى أوروبا خلق خللًا استراتيجيًّا كبيرًا أعطى الصين وروسيا فرصة كبيرة لمراجعة النظام الدولى والمطالبة بإعادة بناء النظام الدولى على أسس جديدة تختلف عن تلك التى سادت فى نهاية الحرب الباردة.
والحقيقة أن المنعطف ممتد ليس فقط إلى دول شرق أوسطية لم تكن فيها التقاليد الديمقراطية عريقة مثل العراق وتونس ولبنان، حيث الشلل شبه دائم فى النظم السياسية التى تعجز عن توليد سياسات اقتصادية مثمرة، وإنما هو ممتد إلى دولة مثل إسرائيل المعروفة عالميًّا بأن لديها ديمقراطية «معيبة» نتيجة تعاملها مع الفلسطينيين. الواقع هو أن النظام السياسى الإسرائيلى بات مصابًا بالعوار، الذى جعله يدخل خمس دورات انتخابية متتالية لن يكون آخرها انتخابات نوفمبر المقبل.
التجربة الأخيرة قامت على تحالف أو تآلف هَشّ استمر بالكاد عامًا واحدًا استنادًا إلى مصلحة سياسية واحدة، هى منع نتنياهو من الوصول إلى السلطة، وهو شرط لا يكفى لإدارة دولة، فضلًا عن اتخاذ قرارات استراتيجية كبيرة لها علاقة بالحرب أو السلام. ببساطة، فإن النظام الديمقراطى يصل إلى حال من الشلل فى لحظة الانقسام الكبير داخل الدولة وعجز مكوناتها السياسية عن التوافق فى القضايا الاستراتيجية الكبرى.
فى فرنسا، ورغم انتخاب «ماكرون» رئيسًا للجمهورية فى جولة ثانية من الانتخابات، فإن حزبه لم يحصل على الأغلبية فى المجلس التشريعى، الذى بات منقسمًا بين حزبه والاشتراكيين والمحافظين المتطرفين. وكل ذلك فى خريطة سياسية تجعل من اتخاذ القرار، فضلًا عن القرارات الجوهرية الاستراتيجية الكبرى، محنة وكابوسًا سياسيًّا كبيرًا.
ظاهرة المنعطف الديمقراطى هكذا تضع العالم كله فى حالة مراجعة شاملة لما كان عليه الحال منذ انتهاء الحرب الباردة وإعلان نهاية التاريخ؛ وكما يحدث عادة فى حالة المنعطفات التاريخية، فإن الفكر الإنسانى يكون عليه التفكير من جديد!.