بقلم - عبد المنعم سعيد
في عددها الصادر 6 فبراير (شباط) الحالي جاء في نشرة «THE HILL» الأميركية مقال لريد ويلسون «على الطريق: العجز الأميركي الجديد».
المقال وضع القضية على الوجه التالي: أضاف اقتصاد الولايات المتحدة خلال اثني عشر شهراً 7 ملايين وظيفة لأول مرة في التاريخ. الأجور ترتفع، والناتج المحلي الإجمالي يصعد، ونهاية الوباء تبدو قريبة بعد أن مالت الأغلبية الواسعة من الأميركيين إلى تناول اللقاح المؤثر الذي جرى تطويره على يد العلماء الأميركيين. ولكن الأميركيين لا يشعرون بذلك، وفي الحقيقة فإنهم في مزاج سيئ بمعدل تاريخي تجاه وطنهم وقادتهم وحياتهم. وعلى مدى عقدين، فإن الغالبية يذكرون أن وطنهم يسير على الطريق الخطأ أكثر مما يسير على الطريق الصحيحة. أكثر من نصف الأميركيين ذكروا ذلك وفقاً لاستطلاعات «غالوب» منذ ديسمبر (كانون الأول) 2003.
هذه الحالة الأميركية ربما تنطبق على كثير من دول العالم الذي حقق من النمو الاقتصادي والتجديد التكنولوجي خلال العقود الثلاثة الماضية منذ انتهاء الحرب الباردة ما لم يتحقق طوال التاريخ كله. والأرجح، أن سبب الحالة هو انتشار الشكوك في سلامة وقدرة النخب السياسية على قيادة الدول في عالم مختلف. وبالنسبة للولايات المتحدة تحديداً، فإن التعاقب الحاد للتوجهات السياسية من جورج بوش الأب إلى بيل كلينتون إلى جورج بوش الابن إلى باراك أوباما إلى دونالد ترمب، ثم أخيراً جوزيف بايدن، زاد وعمّق الخلاف والانقسام داخل الساحة السياسية الأميركية، وأكد غياب القدرة على تحقيق الوفاق على الأهداف الاستراتيجية العليا، بل حتى على مؤسسات النظام السياسي. ووفقاً لاستطلاعات «غالوب» مرة أخرى، فإنه منذ إعادة انتخاب جورج بوش الابن في 2004، فإن الأميركيين الذين رفضوا قبول أداء الرئيس لوظيفته أكثر من هؤلاء الذين قبلوا به.
معنى ذلك حالة من القلق في الجمهور الأميركي تذهب إلى الالتفاف حول رئيس وانتخابه، ثم بعد ذلك سرعان ما تشعر بخيبة الأمل التي تجعلها ليست على استعداد لقبول أداء الرئيس. مثل ذلك لا يمكنه الحدوث إلا في حالة وجود شروخ هيكلية في النظام السياسي لم تظهر فقط في أداء الحزبين الرئيسيين في الكونغرس، وإنما فيما يبدو من حالة مراجعة في النظام الدولي لمكانة الولايات المتحدة ومركزها.
في 25 يناير (كانون الثاني) المنصرم صدر إعلان روسي - صيني مشترك يختلف عن كل الإعلانات السابقة التي تتعلق بخلافات ومناظرات محددة تتعلق بأوروبا أو إقليم بحر الصين الجنوبي أو الشرق الأوسط أو بالقضية النووية الإيرانية؛ وإنما ينصبّ الإعلان على مواجهة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالنظام الدولي الذي قام بعد انتهاء الحرب الباردة والذي شكّل انتصاراً للمعسكر الغربي بقيادة واشنطن. الإعلان في حد ذاته
يشكل حالة مراجعة، تماثل الكثير من المراجعات التاريخية التي جرت للنظام الدولي خلال أكثر من قرنين (1815 – 2022)، وهذه المرة، فإن المراجعة لا تحدِث فقط تغييراً لغير المرغوب من الهيمنة الغربية، وإنما وضع أسس للتعاون التنافسي والتعامل مع تحديات مشتركة، وفي الوقت نفسه رسم خطوط الاختلاف والتمايز بعد أن تغيرت موازين القوى في العالم خلال السنوات الأخيرة. الإعلان يبدأ بمناقشة قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان التي سجلت فيها الولايات المتحدة خاصة في عهد بايدن سجلاً خاصاً يقسم العالم إلى عالمين: عالم الديمقراطية، وعالم السلطوية.
الإعلان المشترك يضع الادعاء الأميركي بهذه القسمة وتحديد تخومها وأصولها وحتى تقديرها في العالم موضع التساؤل؛ ومن جانب آخر يريد العودة إلى الأصول الأولى للعلاقات الدولية منذ معاهدة ويستفاليا التي جعلت لكل دولة قومية قدرها الذي يجعلها تدير شؤونها الداخلية، وإذا كان هناك ما يستحق المناقشة، فإنه يتم من خلال المؤسسات العالمية المعنية. نقطة الانطلاق في الإعلان المشترك هي أنه لا توجد حقوق أميركية تسمح لها أن تنصّب نفسها قاضياً على العالم الذي تختلف وتتنوع ظروفه من دولة إلى أخرى. الإعلان لا يمانع في التعاون في مجالات مختلفة منها الإرهاب، ولكنه يرفض تماماً التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية وأكثر من ذلك «الثورات الملونة» التي انتشرت في شرق أوروبا ووصلت بعد ذلك إلى هونغ كونغ (في الشرق الأوسط كانت الثورات اللوتس والياسمين والأرز، وغيرها من أزهار وأشجار).
من الطبيعي أن تكون كل من الصين وروسيا معنيتين بالتدخلات الأميركية الأمنية، بالنسبة للأولى في بحر الصين الجنوبي أو المحيط الباسيفيكي، وبالنسبة للأخرى في أوروبا من خلال تدخل حلف الأطلنطي بما يشكل تهديدات مباشرة لروسيا الاتحادية. ولكن هذا التوجه الصارم القائم على المشاركة بين قوتين عظميين في عالم ثلاثي القطبية هو في الحقيقة موجه نحو القطب الثالث وهو الولايات المتحدة. والسبب هنا هو أن حسابات القوة قد تغيرت ولم تعد كما كان عليه حالها في أعقاب انتهاء الحرب الباردة حينما كان بعضا من التفكير الأميركي يدور حول نهاية التاريخ. فما حدث فعلياً في الولايات المتحدة لم يكن فقط ارتجاجاً في نظامها السياسي، ولا في الرغبة الأخيرة من قِبل قيادة بايدن في القيادة السياسية والأخلاقية لعالم لم يعد على استعداد للقبول بما تقدمه الجمعيات المدنية الأميركية بصلافة من تدخلات متعالية، وإنما في أن الحقيقة هي أن توازن القوى في العالم قد تغير، وتداخلت فيه ليس فقط القدرات العسكرية والاقتصادية وإنما أكثر من ذلك اعتبارات الكفاءة والإنجاز التي كشفتها «الجائحة» سلبياً بالنسبة للولايات المتحدة أثناء إدارتي ترمب وبايدن معاً. والحقيقة، أن الديمقراطية الأميركية على حالها الآن فقدت الكثير من القدرة على التوافق بين الحزبين الرئيسيين وداخل كلٍ منهم؛ وأكثر من ذلك فإنها باتت جزءاً من عملية الشلل التي تطرأ على النظام الفيدرالي الأميركي وقدرته على توقيع الموارد في زيادة القدرات الأميركية.
الوهن والتراجع لم يحدثا للولايات المتحدة وحدها، ولكنهما حدثا أيضاً في أوروبا والتي ربما بدأت رحلتها مع التراجع ابتداءً من قبول الاقتراح البريطاني ليس بتعميق الاتحاد الأوروبي، وإنما بتوسيعه من خلال قبول دول أوروبا الشرقية الأعضاء في حلف وارسو سابقاً، والذي كان يعني ليس علاقة مع الاتحاد وإنما مع حلف الأطلنطي. التوسيع خلق أعباء باهظة على الاتحاد، ومن الغريب أن بريطانيا التي فرضته، وظلت هي بعيدة عن تعميق «الشنجن» الذي يخلق منطقة أمنية مشتركة، و«اليورو» الذي يخلق منطقة اقتصادية ومالية مشتركة، ومع ذلك فإنها كانت من خلال «بريكست» أول من بدأ عملية تفكيك الاتحاد الأوروبي. لم يتوقف الأمر على هذا التدهور السياسي والاقتصادي وإنما شمل أيضاً التحولات السياسية الضخمة نحو اليمين في حكومات دول الاتحاد الشرق أوروبية والتي تعاونت بشكل كبير مع اليمين القومي الأميركي الذي جاء مع ترمب.
والحقيقة، أن الحديث يمكن أن يطول في انتشار الوهن والضعف داخل الاتحاد الأوروبي الذي مع ما جرى في أميركا يأخذنا إلى لحظة للمراجعة Revisionism سوف تأخذنا إلى تقلصات وتوترات حتى يستقر نظام جديد.