بقلم - عبد المنعم سعيد
ربما لا تحتاج مصر أن تكون رؤوسها باردة وأنفاسها عميقة وقدرتها على الحساب والتدبير بأحكم ما تستطيع كما هى الآن وهى تواجه حزمة مركبة من التحديات الحرجة. وليس معنى ذلك أن حالة بمثل هذا الحرج لم تواجهها مصر من قبل، وهناك بين المصريين مَن ينتمون إلى جيل مرّت عليه أزمات وكوارث بدَت الدنيا وقتها حالكة الظلام، وحتى الجيل الحالى شاهد اللحظات الكارثية التى هلّت على الدولة المصرية فى مطلع العقد الماضى عندما حكم الإخوان، وبعد أن مضوا إلى حالهم تاركين دولة خاوية على عروشها. الخلاصة هى أن مصر خاضت امتحانات من قبل فى صلابتها، واختُبرت فى اختياراتها؛ وهذه المرة فإن مصر وهى تواجه امتحانًا آخر فإنها أكثر استعدادًا من أى وقت مضى. وباختصار فإن مصر تواجه أربعة تحديات كبرى استحكمت حلقاتها فى لحظة تاريخية واحدة، وهى فى الواقع تتشابك فى التأثير على الأوضاع المادية والمعنوية المصرية وتضعها فى حالة على غير ما يُرام. هى حالة سلبية يريد الأعداء استغلالها ثأرًا لأيام سبقت، أما مَن ضلّت بهم الطرق فإنهم يراكمون الشكوك وانعدام اليقين. وبدون ترتيب فى الأهمية، فإن مصر تواجه نتائج وتأثيرات سلبية للحرب الروسية الأوكرانية، التى هزّت الاستقرار العالمى وحلقت على أجنحتها أزمات فى الغذاء والطاقة وسلاسل التوريد إلى آخر ما هو معروف عن أهم أزمة عرفها العالم منذ انتهاء الحرب الباردة قبل أكثر من ثلاثة عقود. وأزمة «جائحة» كورونا، التى ليست باقية فقط، ولكنها أيضًا منذرة بالاستئناف مع الخريف القادم، وفقًا لتقارير وتقديرات دولية معتمة تقدر عدد المتوقع إصابتهم بالمرض بـ100 مليون نسمة. وحالة الإرهاب الذى عاد يطل تحت راية «داعش» برأسه غادرًا ومجرمًا؛ بعد فترة من الهزيمة والتراجع.
.. التحدى الرابع يأتى بكامله من داخلنا، ويأخذ شكلين: أولهما أنه خلال العقد الأخير زاد عدد سكان مصر بأكثر من عشرين مليون نسمة؛ وثانيهما أنه رغم التقدم الكبير الذى جرى فى الحالة الاقتصادية لمصر، فإننا حتى الآن ورغم الإعلانات المتوالية والتأييد الكامل من قيادة البلاد فإننا لم نحقق انتقالًا شافيًا إلى اقتصاد السوق، ورغم التصريحات الصريحة والقوية على مدى السنوات الماضية، فإن الجهاز البيروقراطى للدولة لا يزال عصِيًّا على استيعاب فكرة أن الانطلاقة الكبرى للاقتصاد المصرى لن تتحقق بدون مشاركة كاملة وصريحة من قِبَل القطاع الخاص فى مصر. ولم يكن ذلك لتباطؤ فى القرار، ولا لكسل فى التخطيط، وإنما كان لعرقلة مضنية فى التنفيذ، تؤجِّل وتُرحِّل أمرًا كان ممكنًا له أن يوسع القاعدة الإنتاجية، وأكثر من ذلك يوسع القاعدة الرأسمالية فى مصر.
عند هذه اللحظة الحرجة من التركيب والتعقيد بين التحديات المختلفة، فإنه لحسن الحظ فإن مصر أكثر استعدادًا من أى وقت مضى للتعامل معها، فلديها القيادة التى عركتها الأيام بوعى كبير بهذه التحديات؛ بقدر ما لديها الإدراك الشعبى المصرى أن التجربة الحديثة من الشمول بحيث غطّت الجمهورية كلها أفقيًّا ببنية أساسية جاهزة للتعامل مع الواقع الجديد، وعمقًا لأنها لم تكتفِ بالحضر وإنما وصلت إلى أعماق الريف المصرى. ما يُثلج الصدر أنه حتى نهاية عام ٢٠٢١ فإن السفينة المصرية كانت تسير فى بحر الحياة بسلاسة ويسر، وخلال النصف الأول من العام المالى الحالى بلغ معدل النمو ما تعدى ٩٪، وهو المعدل الذى يمكنه بالفعل تجاوز الزيادة السكانية فى العام الحالى، والأهم أنه يمهد الطريق مع استمراره إلى تراجع الزيادة السكانية ذاتها. أكثر من ذلك فإن مصر حققت اختراقًا فى مجال التصدير عندما ارتفع من ٣٠ مليار دولار إلى ٤٥ مليارًا، أى بنسبة ٥٠٪، كان أهم ما فى ذلك أن السلع غير البترولية مثّلت ٧٢٪ من الصادرات. الاحتياطى المصرى كان ولا يزال أعلى مما كان عليه فى مطلع العقد الماضى، مضافًا إليه أن احتياطنا من الذهب بلغ ١٢٧ طنًّا، وفوقها أن عائدات المصريين فى الخارج تجاوزت ٣١ مليار دولار خلال العام الماضى.
خلال الشهور القليلة الماضية، جاءت العواصف المتتابعة من حرب دولية إلى خطر الجائحة إلى إطلالة الإرهاب مرة أخرى، ربما لكى تؤكد لنا ضرورة التمسك بالمسيرة الوطنية الحالية وسرعتها التى تحققت، والتمسك باستكمال ما لا يزال ناقصًا منها خلال ما تبقى من زمن فى تنفيذ رؤية مصر ٢٠٣٠. وليس سرًّا على أحد أن ما تحقق حتى الآن خلال السنوات السبع الماضية قام على دفعة تنموية كبيرة قامت بها الدولة، مع جهد كبير من القوات المسلحة، نتج عنه كمّ هائل من الأصول التى يخلق استغلالها طفرة هائلة فى معدلات النمو والتشغيل. بعض المشروعات ذات الطبيعة الزراعية على وشك أن تسد جزءًا غير قليل من فجوة «القمح» خلال العامين القادمين، ومع السير فى نفس الطريق من خلال التوسع الزراعى فى سيناء والصحراء الغربية فإن زوال الفجوة ليس بعيدًا عن الواقع.
ما نحتاجه بقوة الآن أن نُبقى الرؤوس باردة فى مواجهة تحديات تخلق لدى بعضنا ما يحدث فى دول أخرى من سخونة ترقص على إيقاع وسائل التواصل الاجتماعى وكتائبه الإلكترونية، التى يعتقد مَن يديرونها أن مصر واقعة فى أزمة يمكن استغلالها بالإرهاب والمزايدة والتشكيك لكى تجرى استعادة فوضى السنوات الأولى من العقد الماضى. وللحق، فإن الغلاء دائمًا ما يثير ثائرة المواطن فى كل بلدان العالم، ولكن معالجته فى الواقع المصرى ممكنة من خلال زيادة استغلال الأصول، ومضاعفة الإنتاج، وتحقيق المزيد من المنافسة فى المجالات المختلفة، والأهم من ذلك كله المضى قدمًا فى استكمال علامات اقتصاد السوق باستيعاب أكبر وأعمق للقطاع الخاص المصرى والأجنبى داخل السوق القومية والإقليمية أيضًا. وفى هذا الإطار فإن تحرير الاقتصاد المصرى من التدخلات الحكومية فى مجالات الخبز والعقار سوف يفتح أبوابًا كثيرة لاستغلال رؤوس أموال راكدة.
هل يمكن للحوار السياسى الوطنى المصرى أن يقوم بدور فى كل ما تقدم؟، والإجابة هى بالتأكيد نعم إذا ما كانت التوجهات بنّاءة تبنى على ما سبق، وتسد ما نقص، وتضيف إلى ما وجب خلال السنوات الثمانى المقبلة. وليس خافيًا على أحد أن هذا الحوار يقوم بين القوى الوطنية المصرية التى ائتلفت فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لقيام ثورة ضد الفاشية، وهى المؤمنة بالدولة الوطنية المصرية القائمة على المساواة بين المواطنين دون تفرقة بسبب الدين أو العرق أو النوع، وهى الساعية لكى تكون مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة. تحقيق ذلك ليس شعارات مرفوعة، أو خطبًا تستدعى التصفيق، وإنما سياسات مطروحة معروفة التكلفة والزمن اللازم للتنفيذ.