هل كانت الليبرالية سبب الحرب

هل كانت الليبرالية سبب الحرب؟

المغرب اليوم -

هل كانت الليبرالية سبب الحرب

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

تعددت الأسباب التي يجري ذكرها في نشوب حرب أوكرانيا، وما إذا كان السبب هو روسيا المدمنة للتوسع الأرضي، أو لأن رئيسها «بوتين» لديه عقدة مما جرى للاتحاد السوفياتي، وأحياناً روسيا القيصرية، في عقود وعهود سابقة، أو أن السبب يعود إلى الولايات المتحدة التي أصرّت على توسع حلف الأطلنطي حتى يصل إلى أوكرانيا فكان ما جرى شبيهاً بالموقف الأميركي في أزمة الصواريخ الكوبية الذي أدى إلى أكبر أزمة نووية عرفها التاريخ. وهناك أسباب أخرى بعضها له علاقة بخصائص النظام الدولي أحادي القطبية، أو النظام العالمي الذي كانت «عولمته» خالية من أصالة خدمة كل دول العالم؛ وبعضها الآخر بالحالة السياسية للرئيس بايدن الذي تراجعت شعبيته إلى الدرجة التي تجعله يحتاج إلى أزمة عالمية كبرى تلمّ شمل الشعب الأميركي ومعه حلف الأطلنطي والتحالف الغربي كله. أياً كانت قائمة الأسباب التي يجري ذكرها، والتي قريباً ما سوف تكون بين أيدي المؤرخين فإنه لا يمكن استبعاد أن الفكرة «الليبرالية» و«الديمقراطية» في حد ذاتها كانت السبب في الحرب بعد أن خرجت من كونها فكرة نبيلة لحرية الفرد، ونظاماً سياسياً نجح في عدد من البلدان الغربية وأعطاها التقدم والازدهار، إلى كونها فكرة آيديولوجية تستخدمها الولايات المتحدة لزعزعة استقرار الدول الأخرى، ونزع الشرعية عن نظم الحكم القائمة فيها، والتدخل في تشكيل دول العالم بنوع من الهندسة السياسية التي كثيراً ما تؤدي إلى نتائج وخيمة لا علاقة لها لا بالحرية ولا بالنجاح.
عالِم السياسة الأميركي جون ميرشاهيمر كان ضمن أقلية في الجماعة العلمية لعلم السياسة الذين رأوا منذ انتهاء الحرب الباردة أن السعي الأميركي في هذا الاتجاه الليبرالي لن يؤدي إلى الحرب فقط، وإنما أيضاً إلى فشل أميركي كبير. فعل الرجل ذلك من خلال سلسلة من الكتب والمقالات والمحاضرات التي دارت كلها حول عنوان «الوهم العظيم: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي».
ولمن لا يعرف فإن جون ميرشهايمر وُلد في 14 ديسمبر (كانون الأول) 1947، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو التي يدرّس فيها منذ عام 1982، وُلد في بروكلين نيويورك، وتعلم هناك، وفي الثامنة عشرة من عمره جُنِّد في الجيش الأميركي مدة عامين، ثم درس في الكلية العسكرية «ويست بوينت»، وتخرج عام 1970، ليخدم بعد ذلك مدة خمس سنوات برتبة ضابط في سلاح الجو الأميركي. بدأ دراسته العليا في العلوم السياسية بجامعة كورنيل عام 1975، وحاز شهادة الدكتوراه عام 1980، ويعد ميرشهايمر من ممثلي «المدرسة الواقعية» في دراسة العلاقات الدولية التي أسسها العالم الكبير في جامعة شيكاغو أيضاً هانز مورجانثاو. ولذا فإنه انطلاقاً من نفس الجامعة مدّ أطراف مدرسته إلى الجامعات الأميركية الأخرى والرأي العام الأميركي، ممثلاً لتيار كبير شارك فيه مع ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بكلية «جون كنيدي للدراسات الحكومية» بجامعة «هارفارد»، في تأليف ونشر بحث عن القوة السلبية للوبي الإسرائيلي في أميركا ودوره في رسم السياسات الخارجية الأميركية، خصوصاً في الشرق الأوسط بوصفه يتعارض مع المصالح الأميركية الواقعية في المنطقة.
يقدم ميرشهايمر ورفاقه تحدياً كبيراً للفكرة الليبرالية الديمقراطية، وفي كتابه الذي وصف فيه الليبرالية بأنها «الوهم العظيم» فإن السياسة الخارجية للهيمنة الليبرالية التي تبنّتها الولايات المتحدة في نهاية الحرب الباردة فشلت فشلاً ذريعاً. ويلقي ميرشهايمر الضوء على الافتراضين الأساسيين لليبرالية اللذين تقوم عليهما الطبيعة البشرية: أولاً، يُفترض أن الفرد له الأسبقية على المجموعة. ثانياً، تفترض الليبرالية أن الأفراد لا يستطيعون الوصول إلى اتفاق عالمي حول المبادئ الأولى، وغالباً ما تؤدي هذه الاختلافات إلى العنف. من أجل التعامل مع هذا العنف المحتمل، تقدم الليبرالية حلاً يشمل ثلاثة أجزاء: لكل فرد حقوق فردية غير قابلة للتصرف، ويحظى التسامح بتركيز خاص، وتصبح الدولة ضرورية للحد من تهديد أولئك الذين لا يحترمون حقوق الآخرين. مثل هذه السمات تجعل الليبرالية نظرية كونية، وهو ما حوّل الولايات المتحدة إلى دولة صليبية، تعتقد أن عليها أن تنشر الديمقراطية الليبرالية في جميع أنحاء العالم، وأن تعزِّز اقتصاداً دولياً مفتوحاً، وأن تبني المؤسسات الدولية. من المفترض أن تحمي سياسة إعادة تشكيل العالم على صورة أميركا في حقوق الإنسان، وتعزز السلام، وتجعل العالم آمناً للديمقراطية. لكنّ هذا ليس ما حدث، وبدلاً من ذلك، أصبحت الولايات المتحدة دولة ذات عسكرة عالية تخوض حروباً تقوّض السلام وتضرّ بحقوق الإنسان وتهدد القيم الليبرالية في الداخل. ما حدث فعلياً أن النزعة القومية في دول العالم والأوضاع الواقعية فيها طغت على الليبرالية دائماً التي بدت عاجزة عن حل المشكلات والمعضلات الاقتصادية والاجتماعية والعرقية التي تواجهها الدول في واقعها المعقد.
وربما لا نحتاج هنا في الشرق الأوسط إلى المعرفة بما تقدمه المدرسة الواقعية الأميركية لفهم خطايا السياسة الأميركية، لأن التجربة في العراق وأفغانستان عرّضت كليهما لسنوات طويلة لعملية الهندسة السياسية الليبرالية وانتهت في كليهما للوضع الذي نشاهده الآن من عجز في الأول عن الإدارة السياسية للدولة، وفي الثانية إلى عودة «طالبان» مرة أخرى إلى حكم الدولة. وخلال عقد كامل وقفت واشنطن وراء ما سمي «الربيع العربي» والذي انتهى إلى إخفاق كبير تمكن الإسلام السياسي والإرهاب من السيطرة عليه. وبينما نالت ثورات الربيع في الشرق الأوسط أسماء الزهور –اللوتس، والأرز- فقد كانت النتيجة في كل الأحوال متراوحة ما بين السيطرة الدينية كما حدث في مصر أو الشلل السياسي والاقتصادي كما حدث في تونس. في الجمهوريات السوفياتية السابقة نالت أسماء ثوراتها المؤيَّدة أميركياً ألوان البرتقالي والبنفسجي الزاهرة؛ وكانت النتيجة فشلاً كبيراً في إدارة الدولة ديمقراطياً بما فيها التعامل مع الأقليات روسية اللغة.
المشروع الأميركي الذي قدمه جوزيف بايدن للعالم كان تقسيمه إلى «الديمقراطية في مواجهة السلطوية»، بدا ليس فقط تدخلاً في الشؤون الداخلية لدول العالم، وإنما أكثر من هذا كان نزعاً لشرعية النظم الحاكمة سواء كان ذلك في الصين أو روسيا، وإنما في دول العالم الأخرى بلا استثناء. وبينما كان ذلك مؤدياً في دول عظمى إلى مراجعة النظام الدولي الذي قام بعد انتهاء الحرب الباردة، وهو ما قاد في النهاية إلى الحرب الأوكرانية، فإنه قاد إلى توترات كبيرة في علاقات دول كانت حليفة للولايات المتحدة مع واشنطن، وبدا في أعينها مزايا كثيرة في الاقتراب من الدول المطالبة بمراجعة النظام في جميع أوجهه الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. ولم يكن توسيع نطاق حلف الأطلنطي بعد انتهاء الحرب الباردة نتيجة أسباب استراتيجية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستعداد روسيا الاتحادية لدخول حلف الأطلنطي ذاته؛ وإنما كان لأسباب آيديولوجية لها علاقة بنشر الليبرالية والنموذج الأميركي في مقدمتها، ما دفع بروسيا الواقعة تحت الهجوم الفكري لنظامها إلى القيام بهجومها العسكري على أوكرانيا لاستباق الدفاع عن نظامها السياسي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل كانت الليبرالية سبب الحرب هل كانت الليبرالية سبب الحرب



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:41 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
المغرب اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 08:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 09:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها
المغرب اليوم - نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها

GMT 13:23 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية
المغرب اليوم - خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن مسيرته الفنية

GMT 09:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

تحقيق يكشف عن تقييد "فيسبوك" للصفحات الإخبارية الفلسطينية
المغرب اليوم - تحقيق يكشف عن تقييد

GMT 18:13 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

مشاريع استثمارية تخلق 14500 منصب شغل

GMT 11:12 2023 الأربعاء ,28 حزيران / يونيو

مدينة "ذا لاين" في السعودية قطعة فنية للحالمين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib