الرباط -المغرب اليوم
المؤلم في الانفجار الذي هز بيروت في الرابع من هذا الشهر، ليس أنه لطخ وجه المدينة بالدماء، فلقد واجهت العاصمة اللبنانية من قبل ما هو أشد من انفجار الميناء وأعتى، ولكنها كانت في كل مرة تبرهن بالدليل على أنها تنتصر للحياة، بأكثر مما تخضع لحسابات تجار الموت في الإقليم!
المؤلم فيه حقاً أنه أسقط عن الطبقة السياسية الحاكمة آخر أوراق التوت، فلقد عاشت تتخفى وراءها طول الوقت وتتوارى وتستتر! ولم يتضح ذلك بما يكفي في الدعوات التي انطلقت عقب الانفجار تطلب التحقيق الدولي فيما جرى، رغم أن الدعوة إلى تحقيق من هذا النوع تشير بالضرورة إلى أن الثقة بتحقيق يجري بمعرفة هذه الطبقة لا وجود لها ولا أثر، وأنها طبقة ليست مؤتمنة على أي شيء يخص رعاياها!
ولا كان واضحاً بما يكفي في الدعوات التي انطلقت ولا تزال في اتجاه الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، فهذه الدعوات بدورها تقول إن الانتخابات التي جاءت بالبرلمان القائم، عجزت عن تمثيل اللبنانيين في قاعة المجلس النيابي على الصورة الحاصلة في برلمانات عواصم العالم المتطور... فهل تنجح انتخابات جديدة بالقانون نفسه في إنتاج شيء مختلف؟! هذا هو السؤال!
ولا حتى سقطت آخر أوراق التوت عندما راجت دعوات ولا تزال أيضاً، حول الحاجة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تحفظ كرامة المواطن في بلده، وتعمل لحسابه وليس على حسابه، وتعطيه ما يستحقه على أرضه، وبين أهله، وتحت سمائه التي عاش يستظل بها ويأمن!
إن الدعوة إلى حكومة تحمل هذا الاسم، معناها بمنطق المخالفة أن الحكومة التي تجلس في مقاعد الحكم لا تحمله، وحين لا تحمله الحكومة... أي حكومة... فهي مدعوّة إلى أن تلملم أوراقها وتغادر، وإلا كانت في مقام الرجل الذي يجلس في غير مكانه... وهذا ما وجدت حكومة دياب أنها مضطرة إليه لأنه لا بديل آخر كان يتوفر أمامها!
ومع ذلك، فإن ما أسقط آخر أوراق التوت عن الطبقة التي ضجّ المواطنون من عجزها، تجسد تماماً في عبارة قيلت في أثناء مؤتمر دعم لبنان الذي انعقد افتراضياً صباح الأحد من هذا الأسبوع، ودعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون!
العبارة تقول إن المساعدات التي قررها المؤتمر للمواطن اللبناني المتضرر من الانفجار «يجب أن تُسلّم إليه مباشرةً بأعلى درجات الفاعلية والشفافية»!
هذه العبارة التي بين الأقواس هي المؤلمة حقاً، وهي التي تجرّد الطبقة المشار إليها من كل شيء، وهي التي تصارحها كطبقة سياسية تحكم وتتحكم بأنها أقل من أن تؤتمن على عبوة غذائية يراد توصيلها إلى مستحقها في لبنان، وأدنى من أن توضع في يدها ليرة لبنانية واحدة يرغب المؤتمر في أن يداوي بها جراح الذين سقطوا مصابين في موقع العملية!
فماذا يتبقى لطبقة كهذه من ماء الوجه الذي عليها أن تواجه به الناس؟! وماذا تجده في رصيدها السياسي إذا كانت عبارة مؤتمر الدعم الباريسي قد صفّرت هذا الرصيد، وأفرغته من كل ما يمكن أن يجعله قابلاً للسحب والإيداع؟!
والموجع في العبارة أنها لا تصفّر الرصيد بمعناه السياسي وفقط، ولكنها تذهب إلى تصفيره بالمعنى الأخلاقي الذي إذا فقده السياسي فإنه يفقد مبرر الوجود في منصبه، ويفقد معه القيم الإنسانية التي تفرق الإنسان عن غير الإنسان، ويفقد القدرة على أن يلقى الناس في أي مكان!
وقد كان نبي الإسلام، عليه الصلاة والسلام، يوصي أصحابه بما معناه، أن كل واحد منهم مدعو إلى الخروج على الناس بوجه حسن. وقد كان السؤال الذي حيّرني على النحو الآتي: بأي وجه سوف يخرج هؤلاء السياسيون على الناس في لبنان، إذا كانت عبارة المؤتمر قد راحت تشدد على أن مساعداته سوف تصل إلى اللبناني بالطريق المباشر من دون وسيط، وأن الوسطاء من رموز الطبقة السياسية يمتنعون؟!
الوسطاء منهم يمتنعون لأنهم ليسوا أمناء على ما يحقق الصالح العام، ولأنهم فقدوا ما يمكن أن يجعلهم أهل ثقة في نظر المواطنين، ولأنهم مروا في أكثر من اختبار من قبل، ثم كانوا يسقطون في كل مرة ولا يكونون عند حُسن ظن الناس!
وحقيقة الأمر أن الحديث عن حكومة وحدة وطنية، أو انتخابات نيابية مبكرة، أو حتى عن تحقيق دولي، ربما يمثل حلاً سريعاً للمأزق الذي تجد الجمهورية اللبنانية نفسها واقفة على أعتابه فيما بعد الانفجار... ولكن الحاصل أن أي بديل من الثلاثة لن يكون حلاً على المدى البعيد، ولا البدائل الثلاثة معاً ستكون حلاً في الأمد الطويل!
لن تكون كذلك لأن الرهان عليها وحدها للعبور من الأيام العصيبة التي طلعت على لبنان مع انفجار الميناء، هو كالرهان على الظل في المسائل الكبرى وليس على الأصل فيها... الأصل الذي يُنتج الظل ويحرّكه في أي اتجاه سار فيه أو سعى! والأصل في الموضوع هنا هو القرار 1559 الصادر عن الأمم المتحدة، والذي إذا صادف مجتمعاً دولياً قادراً على الأخذ به على الأرض، فإن هذه ستكون البداية إلى دولة فاعلة في لبنان، دولة تحمل السلاح دفاعاً عن حدودها وحماية لأبنائها، فلا ينازعها في ذلك كيان آخر على أرضها، دولة يعطيها القانون حق ممارسة العنف إذا كان في ذلك ما يضمن صالح المواطن ومصالح الوطن!
القرار صدر في الثاني من سبتمبر (أيلول) 2004، ولكنه بقي في انتظار ترجمة عملية له في واقع البلد وفي حياة مواطنيه، وكان ولا يزال حبراً على ورق، ولا بد أن قيمة قرار مثله ليست في صدوره ولا في الإعلان عن صدوره، ولكنها في نقله من العالم النظري إلى الواقع الذي يمتلئ بالحياة!
هذا قرار صدر لتعديل وضع منحرف لا تجد له نظيراً في أي دولة باستثناء لبنان، لأنه لا دولة تسمح بأن تخرج عليها جماعة من بين سكانها وهي تحمل السلاح، وإذا سمحت الدولة بذلك فإنها تتنازل عن حق أصيل لها لا يجوز أن تتنازل عنه في كل الظروف!
هذا قرار صدر لينزع السلاح من أي يد في البلد، إلا أن تكون هذه اليد هي يد الدولة نفسها، وإلا أن تكون هذه اليد هي يد الجيش في لبنان!
ويتساوى في ذلك «حزب الله» الذي يجاهر بحمل السلاح ولا يخفيه، مع أي جماعة سواه قد يجد رجالها إغراءً لحمل السلاح في لبنان... فالسلاح الذي لا تحمله الدولة مثل سلاح «حزب الله» هو سلاح مرفوع في وجهها، وهو سلاح ينتقص من سيادتها على أرضها، وهو سلاح يغلّ يديها عن فرض إرادتها على أركان خريطتها، وهو سلاح يأخذ من قوتها ويعطي لمن يجب أن يحتمي بها، لا أن يخرج عليها في عز النهار!
الانشغال بغير البحث عن طريقة يتم بها تطبيق هذا القرار، هو انشغال بتجفيف البيت الذي أغرقته المياه حتى فاضت على الجدران، بينما المحبس في الخلفية مفتوح يتدفق منه الماء!