بقلم - سليمان جودة
يعمل الكاتب الليبى الأستاذ عبدالجليل الساعدى ويعيش فى لندن، ولا يجد سلواه إلا فى الأدب يكتبه روايةً مرة ويقرضه شعرًا مرةً ثانية، وفى الحالتين سوف تتكشف كتاباته عن غرام خاص يجمعه مع لغة القرآن الكريم.تجد هذا فى ديوانه الذى جمع أشعارًا من قبل، وتجده فى روايته «عرب فى لندن على ضفاف التايمز»، التى صدرت فى ٢٠٢٠، وتجده فى روايته الجديدة: أيام على نهر آيسيس.. ومن العنوانين تكتشف أنه مشدود إلى الأنهار فى أى أرض جرت، وأنه يجد فيها ما يحرضه على أن يتأمل وأن يكتب.
فى روايته الجديدة الصادرة عن دار «جداول» للنشر والترجمة والتوزيع فى بيروت، يلتقى بطلها «فدوكس» فى لندن مع خمسة من أصحابه داخل مدرسة أسسوها معًا، ويذهب إلى اللقاء بهم مع زوجته أروى، ويتفقون جميعًا على أن يكون اللقاء فى موعد ثابت مساء كل يوم خميس، ثم على أن يتحدث واحد منهم فى كل مرة، وأن يختار الموضوع الذى سيتكلم فيه، وأن يكون موضوعه مادة حية للنقاش والحوار. وهكذا تتجدد اللقاءات مع ختام كل أسبوع، ويحمل كل باب من أبواب الرواية عنوانه من توالى أيام الخميس.
وتتوالى أبواب الرواية من الباب الأول الذى يحمل عنوان «الخميس الأول» إلى الباب الأخير الذى يحمل عنوان «الخميس الثانى والعشرون».. وفى كل الأخمسة كانت اللغة هى البطل الذى ينافس أبطال الرواية، وكانت موضوعات الحديث والنقاش والصراع بين الأبطال تقف على أرضية اللغة ومفرداتها الغنية ولا تفارقها.. ففى مرة يتكلمون عن الخيل فى تراث العرب وفى لغتهم القديمة، وفى مرة ثانية ينتقلون إلى الليل بكل معانيه، ثم إلى الحب، ومن بعده إلى العين التى انشغل بها الشعراء قديمًا، ثم إلى الأنف رمزًا للكبرياء، ومن بعده إلى الأُذن، إلى بقية ما كان كل متكلم منهم يختاره ويجد راحته فيه.
ولكن «أمل» وحدها من بينهم كانت تختلف عن بقية المجموعة كلها، فكانت تتطلع إلى الماضى ولا ترى فائدة فى الانشغال بما كان فيه.. وكانوا عبثًا يحاولون إقناعها بأن الماضى إذا كان قد انطوى زمنه، فإن أثره قائم بيننا، كما أن فعله لا يتوقف عن التواجد فى حاضرنا.. فالقضية تظل دائمًا فى أن نعرف كيف يأخذنا الماضى بأثره إلى المستقبل، لا إلى الخلف، وكيف يذهب بنا الماضى بفعله إلى أمامنا هنا، لا إلى الوراء هناك. ومن «عرب فى لندن على ضفاف التايمز» إلى «أيام على نهر آيسيس»، تجد أن القضية التى ينشغل بها عبدالجليل الساعدى قضية واحدة، وأنها تبدأ من عند مساحة الماضى فى حياتنا وتنتهى عندها أيضًا، وأن
«أمل» إذا كانت تمثل النزوع نحو المستقبل وتتأفف من التوقف أمام الماضى فهى أقلية بالمقارنة ببقية أبطال الروايتين معًا.
وفى روايته الجديدة كان المؤلف قد أضاف فصلًا أخيرًا، وكان قد جعله تحت عنوان «الخميس الأخير»، ولكنه لم يكتب فيه شيئًا، وإنما افتتحه بعدة سطور من النقط المتراصة بعضها إلى جوار بعض فى فراغ، وكأنه أراد أن يترك أُفقًا مفتوحًا لرواية ثالثة فى القضية نفسها، أو كأنه يراهن على أن «أمل» باعتبارها رمزًا للانشغال بالمستقبل فى روايتيه سوف تكون لاحقًا أكثر من «أمل» وأن المستقبل سوف يغالب ماضينا كعرب فيغلبه، لا بهدف إقصائه عن حياتنا كليًّا، ولكن بغرض وضعه فى إطاره الدقيق والصحيح.