قياساً على ما أعلنه الدكتور أحمد عكاشة من أرقام مؤكدة، في كتابه الصادر في القاهرة أول السنة الماضية، أدعو الدكتور تيدروس أدهانوم، مدير منظمة الصحة العالمية، إلى الإعلان عما لديه من أرقام موثقة، ولكن في موضوع آخر طبعاً!
كتاب الدكتور عكاشة صدر عن جانب من سيرته الذاتية، وعنوانه: «نفسي... حكايات من السيرة الذاتية»، وقد حرره زميلنا الأستاذ محمد السيد صالح.
وما يهمني في الكتاب هنا، هو الرقم المذكور فيه عن عدد الذين يفقدون حياتهم سنوياً بسبب مرض الاكتئاب، وقد أحصاهم عكاشة فوجدهم مليون إنسان في السنة على امتداد العالم، وهو لم يفعل ذلك باعتباره طبيباً من أطباء النفس الكبار، الذين يتفرغون لمعالجة ضحايا هذا المرض، ولكن بحكم وجوده لسنوات مديراً على رأس الجمعية العالمية للطب النفسي!
مليون بني آدم يموتون على مدار السنة، بسبب مرض واحد من الأمراض النفسية، ومع ذلك، لا أظن أن أحداً قد استوقفه الرقم من قبل، ولا أظن أن أحداً قد جرّب ولو على سبيل الرياضة العقلية، أن يعقد مقارنة سريعة بين الذين يموتون اكتئاباً، وبين الذين يغادرون الدنيا في المقابل بسبب أي مرض آخر!
وقد جاء توقيت الرقم المعلن من جانب الدكتور عكاشة، في مطلع السنة التي هاجم فيها فيروس كورونا العالم، ولكن ما كادت تلك السنة تدور لتأتي إلى نهايتها حتى كان «كورونا» قد توحش، وحتى كان قد أغلق الحدود بين شتى الدول، وحتى كان قد فرض على المليارات السبعة الذين يسكنون هذا الكوكب، أن يبقوا في بيوتهم كأنهم أسرى حرب في قبضة ذلك الوباء اللعين!
ولو حاولت الجمعية العالمية للطب النفسي، أن تقوم بشيء من التحديث للبيانات والأرقام الخاصة بالاكتئاب وضحاياه، خلال الفترة التي شاع فيها «كورونا» وانتشر، فالمؤكد أن رقم المليون سيتغير ويتبدل، والغالب أن تغيره وتبدله سيكون لأعلى، وربما يكون لأعلى بكثير، لأنه إذا كان هناك مرض قد صاحب هذا الوباء الذي لا يزال يخرج علينا في كل صباح بمتحور جديد، فهذا المرض هو الاكتئاب على وجه التحديد، وإذا كانت غالبية البشر قد عانت من شيء طوال أيام «كورونا» التعيسة، فهذا الشيء هو مرض الاكتئاب أكثر من أي مرض آخر!
وهل هناك أدعى إلى جلب الاكتئاب على الناس، من أن يكونوا مرغمين على البقاء في منازلهم مقيدين في الحركة؟! إن حالهم كان ولا يزال أقرب إلى حال ركاب طائرة دخلت منطقة من مناطق المطبات الجوية، فلم يجدوا مفراً من ربط الأحزمة، ثم الدعاء إلى الله تعالى أن تمر لحظاتهم العصيبة على خير. كان هذا ولا يزال هو حال الناس في أركان الأرض الأربعة!
إن المليارات السبعة الذين يقيمون على الأرض، يجدون أنفسهم منذ حل عليهم وباء كورونا، أقرب ما يكونون إلى ركاب هذه الطائرة التي لا تكاد تخرج من منطقة مطبات، حتى تدخل في نطاق منطقة جديدة. فلما جاء هذا المتحور الأخير المسمى «أوميكرون»، بدا الأمر وكأن الطائرة التي تتمايل بشدة إنما هي على وشك السقوط، دون أن ينتبه ركابها الخائفون المفزوعون إلى أن ما تمر به هو مطب هوائي عادي من نوع المطبات التي مرت بها من قبل ثم عبرت إلى وجهتها سالمة!
كل ما أريده من الدكتور أدهانوم أن يعلن الأرقام التي في حوزته بحكم منصبه، عن عدد الذين يفقدون حياتهم في كل سنة، ليس بالطبع بسبب «كورونا»، فلقد أعلن ذلك ولا يزال يعلنه حتى مللنا ما يفعله وما يكرره. وإنما القصد أن يعلن عدد الذين يموتون بمرض الإنفلونزا العادية أو الموسمية التي تهاجم الناس من سنين، وتأخذ ضحاياها معها وترحل ضمن حصيلتها في كل سنة، فإذا جاء عام جديد عاودت الهجوم المباغت أو غير المباغت، ثم مضت في طريقها لا تعبأ بشيء!
كن الهدف من وراء طلب هذه الإحصائية التي هي لا بد في حوزة مدير الصحة العالمية، أو في متناول يده على الأقل، أن توضع الأمور في سياقها الصحيح، وأن تكون المقارنة بين الحالتين؛ حالة كورونا وحالة الإنفلونزا، بغرض تهدئة أعصاب أهل الأرض، بدلاً من إثارة الفزع في نفوسهم مع كل متحور يظهر، وبالذات مع هذا المتحور الجنوب أفريقي الذي أخذ من الدعاية منذ لحظته الأولى، ما لم يحصل عليه كل متحور سبق ثم اختفى في هدوء، دون أن تصاحبه ضجة من نوع ما هو حاصل أمامنا!
وليس سراً أن كثيرين يشعرون منذ ظهر المتحور الجديد، بأن في الأمر «شيئاً ما» غير طبيعي لم يحدث أن مر بهم على طول الفترة من بداية ظهور «كورونا» إلى اللحظة!
سبب هذا الشعور أن أحداً من بين علماء الفيروسات لم يقطع برأي بعد في مدى خطورةأوميكرون» أو عدم خطورته، لأن القطع بشيء من هذا علمياً في حاجة إلى وقت يستغرقه البحث أولاً، ولأنه في حاجة من بعد الوقت إلى علماء أمناء مع أنفسهم ومع الناس ثانياً!
بل إن كل واحد من علماء الفيروسات أو المناعة سألوه في الموضوع، كان يقول إنه من المبكر الحديث عن اختلاف المتحور الجديد عن أي متحور سابق عليه، وإن كل ما يقال عن المتحور الجديد إلى الآن هو من نوع التخمينات والتوقعات!
وكان معنى هذا أن ما جربناه من أسلحة المواجهة مع «كورونا» منذ ظهوره، وكان مجدياً ونافعاً، سيكون هو ذاته مجدياً ونافعاً بالدرجة ذاتها مع المتحور الجديد، وأن ذلك سيكون على الأقل إلى أن يتبين لنا ما إذا كان «أوميكرون» بهذه الخطورة التي يدور الكلام عنها حالياً، أم أنه مثل متحور «دلتا» وسواه من المتحورات التي تتابعت علينا هذه السنة ومن قبلها السنة الماضية!
لقد جربنا لقاحات متنوعة ومتعددة، وجربنا احترازات يستطيع كل إنسان أن يحترس بها في مواجهة الآخرين إذا وجد نفسه معهم في الأماكن المغلقة، وجربنا من اللقاحات والاحترازات قائمة طويلة، وكلها قيل عنها علمياً وطبياً إنها قادرة على الحد من خطورة «كورونا»، ومن انتشاره، ومن عدواه، والأهم أنها قادرة على التخفيف من حدة أعراضه التي نعرفها، وأنها مانعة لأن تكون الإصابة به طريقاً إلى فقدان الحياة!
وكانت الحكومة في بريطانيا هي أكثر الحكومات اقتناعاً بهذا المنطق، الذي يقول إن على العالم أن يعود ليمارس حياته الطبيعية كما مارسها قبل «كورونا»، وإن كل ما هو مطلوب منه أن يتسلح بسلاحين: اللقاح في إحدى يديه، والاحترازات المعروفة في اليد الأخرى!
وكان العالم قد بدأ يتكيف مع الطريقة البريطانية ويعيش بها، ولكن يبدو أن «كورونا» لم يعجبه هذا التكيُّف، فخرج من الباب ليعود من الشباك وهو يتخفى في ثياب متحور جديد!
وبمعنى أدق فإن «كورونا» ليس هو الذي لم تعجبه المدرسة البريطانية في التعايش معه، إذا جاز أن نسميها مدرسة، ولكن الذي لم يعجبه هو طرف خفي، أو طرف ثالث إذا جاز التعبير. إنه طرف لا نعرفه، ولكن ما نعرفه عنه أنه يحرص على إشعال سوق الوباء كلما هدأت الأحوال فيها، فينفخ في نار إحدى جبهاتها هنا، ثم يُلقي الماء على جبهة أخرى هناك فتتراجع درجة حرارتها. والدليل أن أوروبا كانت مشتعلة بالمخاوف والهواجس إلى أيام قليلة مضت، خصوصاً النمسا وألمانيا في القلب منها، ولكن في لحظة انتقلت هواجسها ومخاوفها إلى القارة السمراء وبالذات جنوب أفريقيا وما حولها، وتركزت الأنظار والأضواء على هذه الدولة الأفريقية، ولم يعد أحد يتحدث عن النمسا ولا عن ألمانيا!
في العاشر من يونيو (حزيران) 2020، كان الدكتور أحمد المنظري، مدير الصحة العالمية المسؤول في الشرق الأوسط، قد أعلن أن عدد وفيات «كورونا» خلال الأشهر الستة السابقة بلغ 400 ألف، وكان معنى كلامه الذي لم يتوقف عنده أحد، أن وفيات «كورونا» أقل من وفيات الاكتئاب خلال الفترة نفسها بمائة ألف كاملة!!
ومع ذلك كله لا يزال هناك مَنْ يركز الأضواء على ضحايا «كورونا» وإصاباته، ويطفئها عن وفيات وإصابات سواه، لأسباب لا أظنها خافية على المتأمل في المشهد بكامله، وتحديداً على مستوى المستفيد أو المستفيدين من بقاء «كورونا» شبحاً تتجدد ظلاله في الأفق كلما خفتت أو كادت تختفي!