بقلم - سليمان جودة
اختار الرئيس الأميركي جو بايدن صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية دون سواها من صحف الولايات المتحدة، لينشر فيها مقالة راح يمهد بها لزيارته إلى المنطقة التي بدأت أمس من إسرائيل، وتستمر إلى بعد غد في جدة التي يقضي فيها يومين.
ولا أحد يعرف لماذا هذه الصحيفة على وجه التحديد! هل لأنها صحيفته المفضلة مثلاً، وهل لأنه اعتاد على مطالعتها مع قهوة الصباح، أم لأنه اختارها على سبيل الكيد السياسي لصحيفة «نيويورك تايمز» التي توصف في العادة بأنها أوسع الصحف انتشاراً في العالم؟!
ولماذا يكيد لها؟! هل لأنها الصحيفة التي زارها خصمه السياسي العنيد دونالد ترمب، بعد فوزه في سباق الرئاسة 2016؟!
يجوز، فلقد كانت «نيويورك تايمز» على خصام يقترب من حدود العداء مع ترمب أثناء فترة ترشحه، ولكنه ما لبث أن زارها في مقرها بمجرد فوزه، وهناك بدا منتشياً بالزيارة، وبدا مزاجه عالياً وهو يتبادل ما يشبه النكات و«القفشات» مع محرريها وطاقم عملها. ولكن هذا لا يبدو سبباً كافياً، إذا ما بحثنا عن مبرر يجعل بايدن يفضل «واشنطن بوست» عليها، ويجعله لا يذهب إليها بمقالته التي أخذت عنها صحف الدنيا منذ لحظة خروجها إلى النور.
هل يريد سيد البيت الأبيض أن يقول إنه يقف على النقيض من ترمب، إذا ما تعلق الأمر بالتعامل مع الإعلام، وبأنه يفضل نوعاً محدداً منه على نوع آخر؟!. هذا أيضاً جائز؛ لأن زيارة الرئيس السابق إلى «نيويورك تايمز» لم تكن كما بدت في وقتها ثم بعدها، سوى رغبة في كسبها إلى صفه، أو اتقاء شرها إذا عجز عن كسبها، أو حتى تحييدها على الأقل!
ولا بد من أننا تابعنا طول سنوات ترمب في السلطة، ومن قبل على مدى الفترة التي كان فيها مرشحاً في السباق الرئاسي مع هيلاري كلينتون، أنه لم يكن يميل لا قليلاً ولا كثيراً إلى الإعلام التقليدي بصورته التي نعرفها، وأن انشغاله كان بالإعلام الجديد الذي عرف كيف يستخدمه ويجيد استخدامه، وقد كان هذا الإعلام تحديداً هو الذي حمله إلى البيت الأبيض.
عاش ترمب ولا يزال معجباً بهذا النوع من الإعلام، وعاش يمتلك أدواته، وعاش لا يتعامل مع الإعلام التقليدي إلا على سبيل الرغبة في نزع السم منه؛ لأنه لا يزال موجوداً، ولا يزال قوياً في بلد كأميركا، ولا يزال له نفوذه الذي يستطيع به أن يؤثر ويعمل.
وقد كان في مقدور الرئيس الأميركي أن ينشر مقالته في شكل بيان رسمي صادر عن إدارته، وكان في إمكانه أن ينشره من خلال موقع من مواقع التواصل ذات الانتشار الواسع بين الجمهور، ولو فعل ما كان أحد سوف يلومه أو يأخذ عليه شيئاً، ولكنه انحاز إلى صحيفة هي الثانية تقريباً في بلاده من حيث انتشارها، ومن حيث أرقام توزيعها الورقي المعلنة، ومن حيث تأثيرها في قرائها وفي عملية صناعة القرار، وربما حتى من حيث مصداقيتها في كثير مما تنشره وتقدمه للقراء!
وكان هذا الانحياز من جانبه مما يجب أن نحمده له، لا لشيء إلا لأنه انحياز إلى الإعلام المسؤول، والإعلام الذي يعرف حدود المسؤولية فيما يسوقه إلى كل قارئ، وفيما يروّج له بين جمهوره، سواء كانت مادة الترويج خبراً أو كانت مقالاً من مقالات الرأي.
فليس سراً أن الإعلام الجديد لا يعرف هذه المسؤولية، وإذا عرفها فهو لا يمارسها، وإذا قامت في أي وقت مقارنة بينه وببن الإعلام الذي دأب ترمب على استخدامه وعلى توظيفه، فسوف تقول المقارنة إننا في كل الأحوال نجد أنفسنا أمام إعلام تقليدي يُقر في كل ممارسة مهنية له بأنه مسؤول عما يقدمه لنا، ثم إعلام من نوع مختلف لا يدرك إلى الآن أن للحرية وجهاً في المقابل اسمه المسؤولية!
إلى الإعلام الأول كان انحياز بايدن، وهو يبحث عن منصة تحمل مقالته إلى العالم، ومن وراء العالم إلى منطقتنا التي كانت تتأهب لاستقباله وقت نشر المقالة.
وبالطبع، فإن «واشنطن بوست» قد حملت أفكاره إلينا، وإذا شئنا قلنا إنها حملته هو نفسه في رحلته إلى هذه المنطقة من العالم؛ لأن الرجل -أي رجل في العموم- ليس سوى أفكاره التي يؤمن بها على مستواه الشخصي، أو التي يريد أن يبشر بها في منطقة من المناطق، إذا ما كان هذا الرجل هو الرئيس الأميركي، وإذا ما كانت هذه المنطقة هي الشرق الأوسط!
والمؤكد أن سيد البيت الأبيض يعرف جيداً أن لهذه الصحيفة تاريخاً لا ينساه أي أميركي، عندما كانت سبباً في خروج الرئيس ريتشارد نيكسون من البيت الأبيض نفسه، وعندما نشرت على قرائها تفاصيل تجسسه على الحزب المنافس!
ولكن القضية بالنسبة لـ«واشنطن بوست» لم تكن في مجرد خلع نيكسون من منصبه، وإنما كانت في أنها كانت سبباً بالدرجة نفسها في دخول جيرالد فورد إلى المكتب البيضاوي. وقتها كان فورد نائباً لنيكسون، وكان الدستور الأميركي ولا يزال ينص على أن ينتقل النائب إلى المقعد الرئاسي مباشرة إذا خلا موقع الرئيس، ومن دون أن يمر النائب بالانتخابات التي يمر من خلالها الرئيس.
هذا بالضبط ما حدث في ذلك الوقت، وهذا ما عبّر عنه فورد حين صدرت «واشنطن بوست» وفي صفحتها الأولى «مانشيت» على لسانه، سوف يظل فريداً من نوعه بين «المانشيتات» ذات التاريخ المكتوب!
والذين زاروا مقر الصحيفة في العاصمة الأميركية، لا بد من أنهم قد مروا على هذا «المانشيت»، بعد أن كان المسؤولون عنها قد أخذوه ثم وضعوه في برواز كبير يضم صورة للرئيس الجديد الذي جاء خلفاً لنيكسون، وفوق الصورة سطر «المانشيت» المأخوذ من تصريحه لها!
قال فورد في «المانشيت» الكبير المعلق في إطار على الحائط: «لقد حصلت على وظيفتي الرئاسية عن طريق هذه الجريدة!».
وقد كان الأمر كذلك بالضبط؛ لأنه لولا أن الصحيفة شنت الحملة الشهيرة بفضيحة «ووترغيت»، ولولا أنها واصلتها إلى نهايتها، ولولا أن نهايتها كانت استقالة نيكسون في 1974، ما كان فورد قد صار رئيساً بهذه السهولة، وكان عليه أن يخوض الانتخابات بعد رحيل نيكسون في موعده الدستوري، فيكسب فيها ويأتي رئيساً عبر صندوق الاقتراع، لا من خلال ما يتيحه الدستور للنائب تلقائياً إذا خلا منصب الرئيس!
وهذا ما لم يحدث معه، فلقد أكمل فترة نيكسون إلى نهايتها، ثم خاض الانتخابات أمام المرشح الديمقراطي جيمي كارتر فخسر بفارق طفيف، وهذا معناه أنه لولا «واشنطن بوست»، ما كان اسمه مسجلاً هذه اللحظة في قائمة الرؤساء الأميركيين الذين مروا ذات يوم على البيت الأبيض.
وقد حملت الصحيفة نشرها في البيت الأبيض بشكل مباشر. صحافة أميركية أخرى ، صحافة أميركية أخرى ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة ، صحافة صحافة!