ما لن يفوت زائر الرياض

ما لن يفوت زائر الرياض

المغرب اليوم -

ما لن يفوت زائر الرياض

سليمان جودة
بقلم: سليمان جودة

لا توجد عاصمة في العالم إلا وتبدل ثيابها، وما يميز عاصمة هنا عن غيرها هناك، هو قدرتها على أن تفعل ذلك في سرعة ظاهرة.
والعواصم في العادة هي عناوين البلاد، وهي التي تستقبل زائر البلد وهي التي تودعه، وليس من الممكن أن تتعرف على بلد دون أن تمر على عاصمته، ومن الجائز أن تطير إلى بلد ثم تفارقه دون أن تتوقف في العاصمة، وفي هذه الحالة سوف يظل ينقصك شيء ما.
ورغم كثرة المدن في المملكة العربية السعودية، ورغم أن المدن تتناثر على مساحة المملكة الممتدة، فإن الرياض تظل هي الباب الذي منه تدخل ومنه تخرج، وفي الحالتين يرافقك الانطباع الأول الذي من خصائصه أنه يدوم.
وزائر الرياض هذه الأيام لن يجدها كما تركها، إذا كان قد مر بها من قبل، حتى لو كانت زيارته السابقة قبل سنة واحدة ماضية.
ولم يبالغ مرافقي فيها حين همس لي بأنني لن أجدها كما عرفتها، ولو كنت قد غبت عنها نصف سنة، والسبب أنه واحد من بين أهلها، وأهل المكان أدرى به من سواهم دائماً، لا لشيء، إلا لأنهم هُم الذين يراقبون معدل الحركة فيها بالعين المجردة.
ومن الواضح للمتابع من بعيد، ثم للزائر من قريب، أن الرياض تعمل منذ فترة على أن تكون صديقة للسائح الباحث فيها عن خدمة جيدة في كل مكان يقصده، فالسياحة خدمة في كل حالاتها، ومستوى الجودة في الخدمة هو أساس التنافس بين المقاصد السياحية على اتساع العالم، ولا يمكن خداع السائح، أو إغراؤه بالعودة إلى مقصد سياحي لم يعجبه.
ولا بد أن امتداد العاصمة السعودية لأكثر من ستين كيلومتراً من الشرق إلى الغرب، مسألة تسعفها في تقديم الخدمة التي تحبها، ولا بد أيضاً أن استواء أرضها يجعلها طيعة في يد الإدارة التي تخطط، ثم تقرر، وفي الأخير تضع حصيلة التخطيط والقرار على الأرض أمام الناس.
إن في مقدور الواقف في أقصى مكان فيها، أن يرى الواقف في أقصى الوادي على الطرف الآخر، لو أسعفه النظر كما أسعف زرقاء اليمامة في الحكاية القديمة.
ولا أحد يعرف أين عاشت زرقاء اليمامة على أرض الجزيرة العربية بالضبط، ولكن استواء أرض الرياض بهذا الشكل يرجح أنها عاشت فيها، وإلا، فما كانت قد رأت على مسافة ثلاثة أيام من المسير.
وسوف تتعرف على هذه العاصمة أكثر، إذا بدأت رحلتك فيها من قصر المصمك في وسط الرياض، فمن عنده كانت البداية، ليس فقط بالنسبة لها بوصفها عاصمة، ولكن بالنسبة للمملكة التي أسس لها من هذا القصر الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود يرحمه الله.
القصر مربع الشكل، ولا يرتفع إلا لطابقين أحدهما متاح أمام كل زائر، والآخر يخضع لترميم سوف ينتهي في القريب، وعلى رأس كل زاوية من زوايا القصر الأربع يقوم برج من أبراج الحماية الحصينة، وفي بابه الخشبي الضخم ينغرس رأس حربة لا تراه إلا بتدقيق، ولا يزال رأس الحربة طرفاً من حكاية القصر التي يتشوق لسماعها الزائرون.
والحكاية تعود إلى الخامس عشر من يناير (كانون الثاني) عام 1902، وعلى وجه الدقة تعود القصة المروية إلى فجر ذلك اليوم، عندما عاد الأمير الشاب وقتها عبد العزيز من شرق الجزيرة، وبرفقته عدد من رجاله الأشداء، وكان الهدف هو قصر المصمك الذي كان ابن رشيد يتحصن فيه بعد أن كان قد استولى عليه في وقت سابق.
جاء الأمير الشاب قاصداً القصر، وكان القصر معروفاً في ذلك الوقت بقصر المسمك، وكان السبب سُمك جدرانه وقوتها، وقد تحول الاسم لاحقاً من المسمك إلى المصمك، تماماً كما تتحول أسماء كثيرة على ألسنة الناس مع تقادم الزمان.
ولم يكن الهدف هو القصر في حد ذاته، ولكن كان الهدف توحيد أرجاء الجزيرة العربية، ثم كان الهدف هو التأسيس لقيام المملكة التي نعرفها الآن.
ولأن هذا كان هو الهدف، فإن ما بلغ الأمير ورجاله عن سُمك الجدران، وعن بأس المتحصنين وراءها، وعن الأبراج الأربعة التي تستطيل كأنها حراس أشداء، لم يجعلهم يتراجعون، ولا جعلهم يتهيبون المواجهة، فانطلقوا يقتحمون المكان لا يقف في طريقهم شيء، وكان رأس الحربة المنغرس في الباب إلى اللحظة، علامة على أن الذين جاءوا يريدون القصر، قد دخلوه من بابه ولم يدوروا حوله من بعيد.
كان الملك المؤسس يعرف أنه لا معنى لتوحيد معظم أنحاء الجزيرة العربية، ما دامت هذه العاصمة بعيدة عن يده، وكان يعرف أن وجودها في زمامه بداية لتأسيس المملكة، وكان يعرف أن الرياض بالنسبة للمملكة الجديدة التي كانت في خاطره، هي كالقلب في جسد الإنسان، وأن العاصمة إذا دانت له، فتوحيد البلاد من بعدها تحت راية مملكته يظل من قبيل تحصيل الحاصل.
تحسست من جانبي رأس الحربة المغروسة في الباب، وأنا أتطلع ورائي إلى 120 سنة مضت، بينما الرأس غائب في الباب لا تكاد تراه، وكأنه شاهد صامت على ما كان في ذلك اليوم.
وفيما وراء الباب سوف تمر على بئر الماء العميقة كما هي، وكأنهم حفروها في الأمس القريب، وسوف تمر على البنادق التي اقتحموا بها القصر مُثبتة في مكانها، وسوف تسمع صيحات الاقتحام في فيلم وثائقي قصير يحكي وقائع ما كان، وسوف تطالع صور الرجال المرافقين للملك المؤسس مُعلقة في برواز على جدار، وسوف تتخيل منظر الرياض قبل ما يزيد على مائة سنة تتوزع أحياؤها الوليدة حول القصر في كل اتجاه.
وقد كبرت الأحياء الوليدة وامتدت، ومن حول القصر القديم راحت الرياض تزحف وتصل إلى ما وصلت إليه حتى اللحظة، وكان اقتحام المصمك وكأنه الحجر تقذفه في الماء، فتتولد عنه دوائر الماء وتتوالد حتى تبلغ الشاطئ، وكانت عين الزمان ترقب التوالد المتواصل وتراه.
تشعر بعد انقضاء قرن وخُمس القرن على اقتحام القصر واسترداد الرياض، أن انقضاء السنين لم يجعل المعنى في الاقتحام والاسترداد يغيب، وأن زيارة إلى البوليارد الذي يضيء سماء العاصمة هذه الأيام تستحضر المعنى أمامك وتكثفه، وأن الرياض ما كان في إمكانها أن تجدد شبابها في لحظتها الحالية، لو أن الملك المؤسس لم يسبق إلى استردادها في لحظتها الماضية.
وليس البوليارد بنوعيه سوى منطقة من مناطق «موسم الرياض»، الذي تتوزع مناطقه في العاصمة وتفرشها بالنور، ولا لافتات «هلا رونالدو» التي تملأ شوارعها (الرياض) سوى ترحيب بكل الزائرين، بقدر ما هي احتفاء بنجم البرتغال الذي جاء يلعب لنادي النصر لموسمين.
زائر الرياض سوف يلاحظ أنها تجدد شبابها، وأنها ترسم ابتسامة على وجهها، ولن يفوته أن ذلك كله يجري حسب رؤية موضوعة، وأن هذه الرؤية هي رؤية 2030، وأنها هي التي أعلنها قبل سنوات الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، وأن السياحة ملعب بين ملاعبها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما لن يفوت زائر الرياض ما لن يفوت زائر الرياض



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
المغرب اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 01:29 2023 السبت ,23 أيلول / سبتمبر

فيسبوك يغير شعاره إلى اللون الأزرق الداكن

GMT 20:43 2023 الإثنين ,01 أيار / مايو

المغرب يُنافس في بطولة العالم للملاكمة

GMT 21:54 2023 الجمعة ,17 شباط / فبراير

الليرة تسجل تدهوراً جديداً فى لبنان

GMT 23:47 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

أسواق الخليج تتباين ومؤشر "تداول" يتراجع 0.2%

GMT 20:22 2022 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة "بيتكوين" تخسر أكثر من عشر قيمتها في 24 ساعة

GMT 08:05 2022 الأحد ,20 آذار/ مارس

مطاعم لندن تتحدى الأزمات بالرومانسية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib