طقوس تتويج الملك تشارلز الثالث ملكاً لبريطانيا، وإعادة إنتاج الشرعية الملكية، شرعية التراضي الاجتماعي، رغم أنه رجل يملك ولا يحكم، ويظن البعض أنه ليس بحاجة لشرعية التراضي الاجتماعي، هي طقوس مفعمة بالترميز والدلالات القادمة من زمن غابر، كانت بداياتها في القرن الثاني عشر. والطقوس أمر يحتاج إلى قراءة متأنية لفهم إنتاج الشرعية في مجتمع مغاير يتحدث لغة مغايرة، ولديه ترميز له دلالات تسقط في الترجمة عندما ننقلها إلى مجتمعات أخرى وسياقات أخرى، فالطقوس مثل الشعر عندما نترجمه، ما يفقد في الترجمة هو الشعر ذاته. أما الطقوس الاجتماعية فيمكن تقريبها للفهم ولكن ترجمتها تحتاج إلى وجودها في سياقها، كنبتة طبيعية في أرضها، لا يفهمها إلا من خبر معانيها.
قد يسيء بعضنا القراءة، ويركز على مكان التتويج مثلاً، كنيسة ويستمنستر، فيرى أنه لا اختلاف بين دور الدين في الثقافة البريطانية وما يمثله الدين في ثقافات أخرى كوسيلة لإنتاج الشرعية، لكن الحقيقة هي أن الإصرار على زاوية قراءة المشهد من هذا المنظور حتماً سيؤدي إلى سوء قراءة وسوء فهم في الوقت نفسه.
نعم هناك الكنيسة التي هي قبل أن تكون مكاناً دينياً هي أيضاً ترميز معماري من حيث جماليات الكنيسة وعمرانها، لكنها أيضاً زمانية، أي أن وجود الكنيسة وتسيد رموزها للمشهد ما يلبث أن يختفي بنهاية دورها في مراسم التتويج وطقوسه.
الأمر لا يحتاج إلى أستاذ في السياسة أو الأنثروبولوجيا ليفسر لنا علاقة الدين بالسياسة في المجتمع البريطاني، كل ما تحتاجه هو أن تدير ظهرك للنهر في اتجاه حديقة غرين بارك الشاسعة لترى قصر باكنغهام حيث يقيم الملك، وهو قصر، على الرغم من أهميته ورمزيته، لا يضاهي قصر ويستمنستر، حيث مجلس العموم؛ فهو أقل منه في الحجم، يزينه العلم الملكي عندما يكون الملك في القصر، أو العلم الوطني في غيابه. ولكن حجم القصر أقل من البرلمان، أي أن سلطة الملك مقارنة بسلطات الشعب أقل؛ يملك ولا يحكم، ولقد فسرت ذلك بإسهاب ووضوح وتوسع في كتابي عن العمران والسياسة.
ثم تحرك بصرك بزاوية في اتجاه آخر، فترى رمزية الكنيسة الأنغليكانية، التي تمثل عقيدة بريطانيا الدينية، ممثلة في ويستمنستر آبي، وهي قطعة معمارية رقيقة بين البرلمان وقصر الملك في الشمال الغربي ومقر الحكومة، والكنيسة أقل حجماً من البرلمان، وأقل بالطبع من قصر الملك، وهنا يتضح لك أيضاً وبصرياً ومعمارياً أن دور الكنيسة في الحكم محدود جداً، وشبه رمزي، وقريب من الملك، وبعيد عن مبنى رئيس الوزراء.
إذن، وببساطة، الشعب يمثله القصر الأكبر أو برلمان ويستمنستر، والملك يمثله قصر أقل حجماً، ثم الكنيسة، ورمزية دور الدين في المجتمع، ثم مقر رئيس الوزراء.
انسيابية معمارية تمثل انسيابية السلطة التي تجري في عروق شوارع لندن، وتخطيطها العمراني، ما يجعل المواطن البريطاني، وحتى الزائر، مستقراً بصرياً في رؤيته ممرات السلطة وتدرجها؛ مَن يملك ماذا؟ ومَن يتحكم في ماذا؟ أمر شديد البساطة بصرياً.
خرجت من بيتي خصيصاً لأراقب الطقس الاجتماعي البريطاني المصاحب لتتويج الملك، وجلست على مقهى في ركن التقاء شارع نصف القمر (half moon street)، اخي اسم هذا الشارع، وسأكتب عنه يوماً ما، وفي زاوية تقاطعه مع شارع بيكاديلي الكبير، حيث تفصلك عن رؤية القصر الملكي حديقة غرين بارك.
وقد استوقفني ذلك النهر البشري الذي يمر من أمامي بلا نهاية. شوارع لندن كانت تعج بكل الأعمار والأجناس والألوان، أناس يحملون أعلاماً بلاستيكية يتحركون في نهر من البشر يتجه لمشاهدة تتويج الملك ومرور عربته، يخرجون من تلقاء أنفسهم، لم يحشدهم أحد ولم يجبرهم أحد على الخروج، في حالة من إنتاج الشرعية والرضا مشياً على الأقدام في جو مطير، فللشرعية طقوس قديمة يعاد إنتاجها، ولكنها شرعية حرة مبنية على التراضي الاجتماعي.
والسؤال هو: ماذا لو تخرج الآلاف المؤلفة؟ هل كان ذلك سينقص من شرعية الملك؟
أتصور أن البريطانيين والملك معاً يرون في تنظيم الطقوس وفلسفة الخروج والتراضي حاجة للاستقرار النفسي للطرفين، فلا الملك ملك من دون حركة هذه الأقدام على الأرض، ولا الشعب أمة إلا إذا تشارك في الرمزيات الاجتماعية البسيطة، من قبعات على الرؤوس بلون العلم، ولا الأعلام الموضوعة بشكل جمالي على رؤوس الفتيات، أو تظهر من حقائبهن الصغيرة.
هذا الترميز الاجتماعي والإجماع على فهم معانيه ودلالته بشكل مشترك في طقس اجتماعي عام هو الفارق بين النظام الاجتماعي والفوضى، بين عالم توماس هوبز وعالم جان جاك روسو وعقده الاجتماعي. لا تحتاج إلى قراءة هوبز أو روسو لفهم المعنى؛ فالمعنى قابع وواضح في حركة البشر في الشوارع، أناس أحرار جاءوا ليؤكدوا لأنفسهم وللملك أنهم أمة، وليست مجموعات من الغوغاء أو الزحام البدائي.
كان مشهد التتويج في الكنيسة، وخلع رداء الملك خلف الستار من أجل أن يدهن صدره بالزيت المقدس متبوعاً بالصلوات وترديد عبارات عاش الملك بينها، أمراً لافتاً.
أكد القس في موعظته في حالة من إنتاج تواضع القوة داخل الكنيسة أن تاج ملك الملوك في إشارة مسيحية لسيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، كان تاجاً من الشوك لا تاج قوة مرصعاً بالجواهر، وكان كرسيه الصليب الخشبي، وكان رداؤه هو جرحه، وأعتقد أن الزيت المقدس فيه رمزية تطييب الجرح، ومقارنة الملك بالمسيح في مسألة إدارة السلطة والسيادة والسلطان فيها من تهذيب السلطة الدنيوية التي قد تكون مفسدة في يوم من الأيام، هذا الترميز لا يغيب عن الشعب البريطاني وما يتوقعونه من دور الملك في إشاعة التراحم والاستخدام الرشيد للسلطة.
وقرأ رئيس الوزراء الهندوسي ريشي سوناك من الكتاب المقدس، رغم أنه ليس كتابه، للتأكيد على معاني الرموز في هذا الطقس الملكي الهادف إلى إنتاج التراضي الاجتماعي.
دور الكنيسة ينتهي هنا، وربما تحتاجه الأمة بعد سبعين عاماً أخرى أو عشرين عاماً في وفاة ملك أو تتويج ملك آخر، وهنا يتوقف دور الدين في السياسة في دولة علمانية بترميز ديني وتاريخي يحكي قصة الاستمرار والاستقرار.
أما إذا قرأت أن الملك لا يجد شرعيته إلا في الممارسات الكنسية التي شهدنا فتكون قد أسأت قراءة المشهد تماماً.
الطقوس لا يمكن نقل دلالاتها إلى ثقافات أخرى لا تلم بمفاتيحها ومرجعياتها، الطقوس كما الشعر عندما تترجم تفقد ما بداخلها، تفقد الشعر.