كُتب الكثير عن قرار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تحويل متحف آيا صوفيا (الحكمة المقدسة) إلى مسجد. وبالفعل، افتتح مسجد آيا صوفيا، وقرأ إردوغان فيه الفاتحة وآيات من سورة البقرة، في أول صلاة جمعة في الكنيسة| المسجد| المتحف| المسجد مرة أخرى. فكنيسة آيا صوفيا - كما هو معروف - انتهى البناء فيها في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان عام 537 ميلادية، وكان هدفه من البناء إبهار العالم بأهم صرح معماري يفصل بيزنطة عن روما، ويؤسس للكنيسة الشرقية بشكل نهائي واضح، يستلهم قوة العمارة لتوضيح ملامح الفارق المذهبي إلى الأبد. ولذا، جاءت آيا صوفيا عمارة آيديولوجية بامتياز، ذات هدف واضح مقصود، وهو الإبهار في الداخل والخارج، وترسيم الحدود الدينية.
ومن منظور معماري، ورغم المسحة الدينية، فآيا صوفيا كانت لا تختلف عما جاء بعدها من معمار الديكتاتورية، خصوصاً في ألمانيا أدولف هتلر وإيطاليا موسوليني. إذا ما نظرنا إلى موضوع آيا صوفيا من منظور عمران الديكتاتورية، فقد تتغير رؤيتنا لما حدث، وهذا هو هدف المقال: النظر إلى الأمر من زاوية مختلفة كي تتضح حقيقة ما حدث في إسطنبول الجمعة الفائتة، فما حدث هو أمر دنيوي آيديولوجي تكاد تكون علاقته المعلنة بالدين معدومة.
علاقة العمارة بالآيديولوجيا عموماً، والديكتاتورية خصوصاً، هي ما سأحاول إيضاحه هنا. المثال الأبرز في العصر الحديث هو مجيء هتلر إلى الحكم في ألمانيا، حيث كانت عمارة الديكتاتورية أهم أولوياته. فقد بنى هتلر كثيراً من الصروح التي كان الهدف منها إظهار عظمته، وكذلك كانت للعمارة وظيفة لحشد أعضاء الحزب النازي والخطبة فيهم لخلط العنصرية الألمانية الخاصة بالتفوق العرقي مع خطاب الوطنية المتطرفة لإنتاج الزواج الآيديولوجي للخطاب النازي المعروف. وكان المعماري ألبرت سبير الذي أعاد تخطيط جزء من برلين ليتناسب مع الآيديولوجيا الجديدة هو أداة هتلر لتحويل المفاهيم الآيديولوجية إلى صروح معمارية ومشاريع لإعادة تخطيط المدن. آيديولوجيا الحشود خصوصاً تجلت في بناء الصالة الكبرى التي تجمع أعضاء الحزب، ومبنى الرايخ الجديد، وغيرهما.
موسوليني في إيطاليا كان هو الرمز الآخر لعلاقة العمارة بالديكتاتورية، إذ لم يكن مختلفاً عن هتلر في تشييد صروح الديكتاتورية. فقد بنى عمارة تستلهم العمارة الرومانية التي كان الإبهار أول أهدافها. وكانت أعمال ترانجي وبياسنتيني المركزة في روما أساس عمارة الفاشية الإيطالية، الموازية لأعمال ألبرت سبير في ألمانيا. وكان المعرض العالمي في روما إحداها، وكان الهدف من هذه العمارة، إضافة إلى الإبهار، هو خلق حالة من الخوف لدى من يدخلها، وذلك لفوارق المقياس بين حجم الإنسان وفراغ المبنى. والنقطة هنا هي أن عمارة النازية والفاشية كانتا تستلهمان إبهار عمارة روما وعمارة جستنيان في بيزنطة لخلق حالة الخوف والقبول معاً.
العمارة عبر العصور، خصوصاً في الثقافات الديكتاتورية، لها وظيفة محددة، وهي تجسيد الأفكار على هيئة أصنام معمارية. والدارس للعمارة، خصوصاً في العصر الحديث، لا بد أن يتوقف عند رغبة الديكتاتور في بناء الصروح؛ النهم المعماري من أجل الإبهار هو أول علامات الحكم الديكتاتوري.
ولكن ما علاقة ذلك بآيا صوفيا وتزوير عمارة الديكتاتورية؟ آيا صوفيا منذ البداية كانت معماراً آيديولوجياً مسيحياً في عهد الإمبراطور جستنيان، ثم تحولت إلى مسجد أيضاً بفعل آيديولوجي، عندما غزا محمد الفاتح القسطنطينية (إسطنبول) ليؤسس الإمبراطورية العثمانية. ولما جاءت الدولة العلمانية في تركيا، بقيادة كمال أتاتورك، تحولت آيا صوفيا، بفعل ورغبة آيديولوجية أيضاً، إلى متحف لخلق حالة من التصالح الإسلامي - المسيحي.
وتحويل آيا صوفيا إلى مسجد مرة أخرى كان بفعل آيديولوجي منظم من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إذ بدأ الحديث عن هذا المشروع في مؤتمرات حزب إردوغان في العام الماضي، ودشَّن إردوغان بنفسه افتتاح المسجد بقراءة القرآن في أول جمعة.
وإذا كانت الصروح المعمارية الفاشية تستخدم لتجييش الجماهير، وأدلجة أعضاء الحزب، أيام هتلر وموسوليني، فليس بغريب على حزب آيديولوجيته إسلامية أن يبحث عن صرح معماري كبير ملهم مبهر لتوصيل رسالة الحزب. اختلفت الآيديولوجيات بين موسوليني وهتلر وإردوغان، ولكن وظيفة العمارة واحدة: الإلهام والإبهار والحشد والترهيب.
الفارق أن إردوغان لم يبنِ عمارة الديكتاتورية بنفسه، مثلما فعل هتلر وموسوليني، ولكنه استولى على عمارة قائمة بوضع اليد، وجيَّرها لصالحه ولمصلحة حزبه. قام إردوغان بتزوير عمارة الديكتاتورية لصالحه، ولم يبنها بنفسه، وفي هذا سرقة لديكتاتور أتى بالصدفة، وليس بشهوة الإصرار الآيديولوجي الذي شهدته ألمانيا هتلر وإيطاليا موسوليني. إردوغان لم يكن يقصد الديكتاتورية، ولكنها تلبَّسته تدريجياً، وهذا ما يجعله ديكتاتوراً من الدرجة الثانية، وليس في مصاف الأوائل، مثل ستالين وهتلر وموسوليني.
آيا صوفيا بصفته معماراً لا يخدم ديكتاتورية إردوغان على الطريقة الكلاسيكية فقط، وإنما لآيا صوفيا وظيفة أخرى لدى إردوغان، فآيا صوفيا هي المساحة الموازية الأقرب لخلق حالة توازن مع ميدان الحرية (ميدان تقسيم) الذي حاول إردوغان أن يحوله إلى مول تجاري للقضاء على مساحات الحرية المتبقية في تخطيط مدينة إسطنبول، تلك المساحة التي اتخذ منها معارضو إردوغان مقراً دائماً.
معركة آيا صوفيا من منظور عمراني ليست معركة روحية بين المسلمين والمسيحيين، بل هي معركة على روح الديكتاتورية، والبحث عن عمارة تخدم أغراضها. وربما لأن إردوغان ليست لديه الميزانية ولا الوقت لبناء معالم للديكتاتورية، كما فعل تشاوسيسكو في رومانيا، وصدام في العراق، والقذافي في ليبيا، كان من الأسهل عليه السطو على عمارة تخدم هذا الغرض.
إذا ما نظر المسلمون والمسيحيون إلى موضوع آيا صوفيا من منظور عمراني، وعلاقة العمران بالديكتاتورية، قد ينتفي الخلاف، وتفرغ المعركة الروحية من بارودها، وتهدأ الأمور، لأننا في حالة آيا صوفيا أمام ديكتاتور من الدرجة الثانية، ليس لديه المال ولا الوقت الذي أسعف هتلر وموسوليني من قبل في بناء معمار ديكتاتوري.
آيا صوفيا هي معركة آيديولوجية على روح عمارة الديكتاتورية، وعلاقتها بالإسلام أو المسيحية هي مجرد التباس لدى من لا يعرفون ما ترمي إليه فلسفة ديكتاتور إسطنبول الجديد.