لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

المغرب اليوم -

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

سجعان قزي
بقلم : سجعان قزي

قبلَ 13 نيسان 1975 وبعدَه، ومحاولاتُ إنشاءِ أوطانٍ على حسابِ كيانِ لبنان تتوالى وتَندَحِرُ الواحدةُ تلو الأخرى. بقي لبنانُ مستقِلًّا ولو بدون سيادةٍ وواحِدًا ولو بدون وِحدة. منذ نشوءِ هذا الوطنِ "الذخيرة" وعيونُ المحيطِ عليه كعيونِ الحاسِدين. لماذا منه انطلَق الحرْف؟ لماذا ذُكِر في الكتبِ المقدّسة، لماذا زاره المسيح؟ لماذا صَمَد عبرَ العصور؟ لماذا أطلقَ النهضةَ العربيّة؟ لماذا تأسّسَت دولتُه سنةَ 1920؟ لماذا سُمِّيَ بـــ"سويسرا الشرق"؟ لماذا كان دَخلُ الفردِ فيه بالنسبةِ للناتجِ القوميِّ في المرتبةِ التاسعة عالميًّا؟ لماذا... لماذا هو وليس نحن؟ تارةً يريدون لبنانَ جُزءًا من وِحدةٍ عربيّةٍ وتارةً أخرى من وِحدةٍ إسلاميّة. طورًا جُزءًا من سوريا الكبرى وطورًا آخَرَ من إسرائيل الكبرى. حينًا من هلالٍ سُنيٍّ وحينًا آخرَ من هلالٍ شيعيّ. 
حين يَكثُر أدْعِياءُ الحقوقِ في لبنان تَنتفي حقوقُهم ويَنكَشِفُ زَيْــفُــها ويَتأكّدُ أنَّ لبنانَ للبنانيّين وليس للبيعِ أو للإقراضِ مع أنّه بِيعَ وأُقرِضَ مرارًا من دون أن ينالَ بَدَلًا. المحزنُ أنَّ جميعَ تلك الادِّعاءاتِ وَجدَت صدىً لدى المكوِّناتِ اللبنانيّةِ، لا بل انطلقَ بعضُها من لبنان. والمحزنُ أيضًا أنْ حين تراجَعت ادّعاءاتُ الدولِ الخارجيّةِ بلبنان، بانَت دويلاتُ الداخلُ. وأُضيفَ إلى الصراعِ على لبنان صراعٌ في لبنان، وإلى الصراعِ على الكيانِ صراعٌ على الدولة. وها نحن اليومَ نواجِهُ قيامَ دولةٍ مذهبيّةٍ بموازاة، وأحيانًا مكانَ، دولةِ لبنان الديمقراطيّةِ والتعدّديّة.
في مثلِ هذه التاريخِ سنةَ 1975، قاومْنا مشروعَ إنشاءِ وطنٍ فِلسطينيٍّ بديلٍ على أرضِ لبنان. أوّلُ محاولةٍ لتحقيقِ مشروعِ "حلِّ الدولتين" جُرِّبَت في لبنان وفَشِلت. كان الفِلسطينيّون ضَحيّتَها واللبنانيّون ضحيّتَهم. جاهدَ اللبنانيّون منذ سنةِ 1969 لتفادي ركوبِ "بوسطة عين الرمّانة" في 13 نيسان 75. تنازلوا عن سيادةِ الدولةِ في "اتفاقِ القاهرة"، حاوروا المنظّماتِ الفِلسطينيّةَ، ابتدعوا شعارَ "التفهّمِ والتفاهُم"، وسَّطوا الدولَ العربيّة، ناشدوا العالم، وتعرّضوا لاعتداءاتٍ إسرائيليّة. لكن، حيالَ كلِّ تنازلٍ لبنانيٍّ كان يَتضاعَف التطاولُ الفِلسطينيُّ على لبنان، بتواطؤ أطرافٍ لبنانيّين، حتى امتدّت الدويلةُ الفِلسطينيّةُ من الجنوبِ إلى بيروت والبقاع، وكان ما كان. أما "البوسطةُ" فوَجَّهها مُخرِجُو الحرب إلى عين الرمّانة لتكونَ الذريعةَ والشرارة. سائقُ البوسطة عربيٌّ ومُحرِّكُها غربيٌّ و"المعاوِنُ" لبنانيّ.
مصالحتُنا مع منظّمةِ التحريرِ الفِلسطينيّةِ وتقديرُنا لهذا الشعبِ المنتفِضِ والمقاوِم على أرضِه ولو بالحِجارة، لا يَجبُ أن يَحُولا دون الاعترافِ بأحداثِ التاريخ. نحن بحاجةٍ إلى تاريخِنا لنتصالحَ مع أنفسنا. تَصالحنا مع الجميعِ إلّا مع أنفسِنا. نكادُ نكون مثلَ القائدَين الرمانيَّين أوكتاڤ ومارك-أنطوان اللذَين التقيا وحَكما معًا (القرنُ الأوّل ق.م.) من دون أن يَتصالحا. لا نُصِرُّ على استذكارِ أحداثِ حربِ السنتين، لكنّنا نُصِرُّ على تَذكّرِ حدوثِها. 
يَشعرُ اللبنانيّون أنَّ استذكارَ مَحطّاتِ صمودِهم التاريخيِّ مُحرَّمٌ عليهم لعدمِ إثارة أحداثٍ أليمةٍ لا إجماعَ حولها. متى صَنعَ الإجماعُ حقيقةً؟ ومتى أجْمعَ اللبنانيّون على حقيقة؟ مَن يُغفِلُ نضالاتِه ومقاومتَه وصمودَه وانتصاراتِه، وحتى هزائمَه، يَضعُفُ ولاؤه لوطنه، فالولاءُ هو تراكمُ وقَفاتٍ تاريخيّة. لا تترسّخُ المشاعرُ الوطنيّةُ ويَتعزّزُ مجدُ أمّةٍ بطمسِ الذاكرةِ التاريخيّة. وإذا كان اللبنانيّون يَشكون من ارتخاءِ وِحدتِهم فلأنّهم مكتومُو الذِكرياتِ القوميّةِ المشتركَة. لن نَذهبَ إلى ما ذهبَ إليه شعبُ الأزتيك Aztèques قديمًا ــــ المكسيك حاليًّا ـــ إذ اعتبر أنْ لولا تضحياتُه الدائمةُ لا تَشرُق الشمس، لكنّنا واثقون بأنْ لولا صمودُنا لما كانت الشمسُ تُشرِقُ علينا وعلى لبنان.
لذلك، أخْجَلُ اليومَ من أولئك الّذين يَخجَلون من ذاك اليومِ (13 نيسان 1975) ويَتهرّبون من إحياءِ ذِكراه ويُنكِرونَه ويَغسِلون أياديَهم منه كأنّه ذِكرى جريمةٍ في حين أنّه بدايةُ مقاومةٍ للحفاظِ على وِحدةِ لبنان وهُويّتِه ونظامِه الديمقراطيّ. من يَتناسى الشهداءَ تَنساه الحياة. لا إحراجَ في الدفاعِ عن الوجودِ والوطنِ والشرَف. أنتخيّلُ الشعبَ الفرنسيَّ يَستحي من ذكرى انطلاقِ المقاومةِ الفرنسيّةِ سنةَ 1940؟ والشعبَ الفِلسطينيَّ من ذكرى انطلاقِ منظمّةِ فَتح؟ 
ابتعدت الأجيالُ الجديدةُ عن تواريخِ أممِها. صار التاريخُ سَردًا لا أمثولة. سَقط منه أحدُ أبعادِ الوجودِ الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل). صار مفهومُ الدولةِ مثلَ مفهومِ البيوتِ الجاهزةِ لا أساساتٍ ثابتةً لها ولا لها قِصّةٌ في الزمَن. أضْحَت الهُويّةُ الذاتيّةُ أقوى من الهُويّةِ الجماعيّةِ، والهُويّةُ الفئويّةُ أقوى من الهُويّةِ الوطنيّة، والهُويّةُ القوميّةُ أقوى من الهُويّةِ الإنسانيّة. بكلمةٍ أصبحت الهُويّةُ انتماءً إلى "الحالِ الراهنة".
صحيحٌ أنَّ تاريخَ لبنان ثقيلٌ على جغرافيّتِه، وأحداثَه كبيرةٌ على شعبِه، وحروبَه أوْزَنُ من مصالحاتِه، لكنَّ الصحيحَ أيضًا أنّنا زِدْنا على أنفسِنا أحداثًا لا طائلَ منها وحروبًا لا علاقةَ لنا بها حتى أصبح الغُرباءُ شركاءَ في تاريخنِا ومُعتدين على جغرافيّتِنا. وإذا كان نظامُنا الديمقراطيُّ وفَّر لنا جميعَ الوسائلِ السلميّةِ والحضاريّةِ للتعاطي مع بعضِنا البعض وحلِّ ما يطرأُ من مشاكل في ما بينَنا ومع محيطِنا، فالمحيطُ، وكذلك بعضُنا، آثَرا اللجوءَ إلى وسائلِ عنفٍ للتعاطي مع لبنان الجار واللبنانيّين الشركاء.
الغريبُ ـــ أو غيرُ الغريب ــــ أنَّ 13 نيسان 1975 يعود إلينا هذه السنةَ لا كَيومٍ من الماضي بل من المستقبل. فاللبنانيّون الّذين يحاولون نسيانَه وتردادَ: "يُذكَرُ ولا يُعاد"، يَتخوّفون من تَكرارِه لأنَّ هناك مَن يُعيدُ تصليحَ "بوسطةِ عين الرمّانة" ويـَمُدُّها بالوقود. وهناك من يُعطِّلُ النظامَ والميثاقَ والمؤّسساتِ ويَرفض الحوارَ الجِديَّ ويَفرِضُ مشروعًا من خارج البيئةِ اللبنانيّةِ ويَستخدمُ لذلك أطرافًا مُتيَّمين بالمصالحِ والمناصب. يظنُّ هذا الفريق أنَّ سنةَ 2022 هي سنتُه كما كانت سنةُ 1920 سنةَ المسيحيّين، ويسعى إلى اختراعِ لبنان نقيضَ لبنان. سها عن بالِ هذا الفريق أنَّ المسيحيّين بَنوْا لبنانَ بالمحبّةِ والانفتاحِ لا بالغطرسةِ والانعزال، ولم يَحتكموا إلى السلاحِ والترهيب، بل إلى الفكرِ ومحاكاةِ التقدّمِ والحضارة. 
حرَّرنا لبنانَ من جيوشِ الاحتلال، وبقيَ أن نحرَّره من جيوشِ العقائد. حبّذا لو تتمُّ هذه العمليّةُ من خلالِ صندوقِ الاقتراعِ لا من خلال بوسطةٍ جديدةٍ وسائقٍ جديد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:52 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
المغرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
المغرب اليوم - الكشف عن قائمة

GMT 16:38 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

إضافة 408 هكتارات من الحدائق والمساحات الخضراء في بكين

GMT 10:48 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

جنون الريمونتادا

GMT 12:35 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

امرأة تعقد عقد جلسة خمرية داخل منزلها في المنستير

GMT 04:14 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

ارتفاع سعر الدرهم المغربي مقابل الريال السعودي الخميس

GMT 10:06 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الطاعون يلتهم آلاف المواشي في الجزائر وينتشر في 28 ولاية

GMT 03:21 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

إعادة افتتاح مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك

GMT 10:21 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

فضيحة جنسية وراء انفصال جيف بيزوس عن زوجته

GMT 09:04 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

والدة "راقي بركان" تنفي علمها بممارسة نجلها للرقية الشرعية

GMT 05:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

جمهور "الجيش الملكي" يُهاجم مُدرّب الحراس مصطفى الشاذلي

GMT 06:44 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

"Il Falconiere" أحد أجمل وأفضل الفنادق في توسكانا

GMT 00:44 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشف قائمة أفخم الفنادق في جزيرة ميكونوس اليونانية

GMT 15:10 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

شركة دودج تختبر محرك سيارتها تشالنجر 2019

GMT 19:15 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

يوسف النصري علي ردار فريق "ليغانيس" الإسباني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib