خلال أشهر الثورة الحرم، كشفت مظاهرات طرابلس وجوارها في ساحة النور، عن ألق المدينة وبهائها ونضارة وجهها المشّع وطنية وحيوية. وبصوتها الصادح بوجعها وآلامها وآمالها، حيث اتصلت نهارات المدينة بلياليها على أضواء الهواتف المرفوعة على إيقاع الأناشيد الوطنية القديمة خاصة، والتي لم تنل السنون من وهجهها وحضورها في الوجدان الجمعي لعروس الثورة.
خلال أشهر الثورة الحرم هذه وما بعدها، وبدون مكابرة أو خجل اتسم بهما الطرابلسيون، كشفت الفيحاء أيضا عن جوعها المزمن، وفقرها وإفقاره المدمن، والناجم ضمنا عن تبوء الفراغ لسدة تمثيلها السياسي. إنه الإفقار الاقتصادي والمالي والإنمائي، وأيضا السياسي، ذلك الذي عوقبت به عاصمة الشمال مذ كانت "باب التبانة" الشريان الاقتصادي المزدهر ليس لطرابلس والشمال فحسب، وإنما لوسط سوريا وساحلها أيضا. ومن بعد انقطاع الشريان الاقتصادي وذبح طرابلس من الوريد إلى الوريد، تحولت باب التبانة إلى كتل من ركام الأبنية المهدمة عندما موّل بعض ساستها تحويلها إلى صندوق بريد عابر للحدود.
خلال أشهر الثورة الحرم، وتفشي الفقر المعطوف على جائحة كورونا، وانتشار الجوع بين عائلات الطبقة المتوسطة، بعدما ابتلعت المصارف ودائعها. تنافخ ساسة المدينة ونوابها للاجتماع في معرض رشيد كرامي الدولي. إنه المعرض الشاهد على شطب طرابلس من معادلات لبنان الاقتصادية والإنمائية. وإلى الصورة التذكارية الرتيبة والباهتة التي جمعتهم، أصدروا بيانا تعهدوا فيه التعاون للعمل على مواجهة الأيام الصعبة والسوداء على المدينة وأهلها. وبصوت جهوري اخترق جدران المعرض، صاح كبيرهم: طرابلس لن تجوع.
لكن طرابلس التي كانت تسمّى أم الفقير، جاعت وشبعت جوعا وذلا وفقرا وإفقارا وامتهانا للكرامة، وفقدانا للدور. فطرابلس التي كانت مدينة رائدة وقائدة وأكبر من كونها عاصمة ثانية، أصبحت وبفعل ساستها الميامين مجرد مدينة ثانوية مختلة التوازن، بعدما كانت تشكل إيقاع التوازن الوطني، ورجع صدى القضايا العربية الكبرى.
ما جرى في طرابلس ولها، أكبر من عملية تهميش، واستهداف لموقع المدينة ودورها التاريخي كحاضرة عربية كبرى لها حضورها المتقدم بين حواضر العرب وقلاعهم العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ما جرى لطرابلس وافتعل فيها، استهداف لدور المدينة وإلغاؤها من الموازين والمعادلات الوطنية والعربية والمتوسطية، بنفس القدر الذي ألغيت فيه وشطبت مدن وعواصم عربية، بدءا من بغداد، وليس انتهاء بطرابلس الليبية المتوأمة رسميا مع طرابلس اللبنانية، ليس بفرادة التسمية، وإنما أيضا بتساوي القعر الذي بلغته المدينتان العربيتان.
ما أصبحته طرابلس الليبية بعد عدوان الناتو عام 2011، إنها باتت بضواحيها القريبة مثل زوارة، سوقا رائجا للاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية التي يقوم بها حكام طرابلس الجدد، من ميليشيات الناتو ومجاهديه الذين أثروا من خلال تنظيمهم ورعايتهم قوارب الموت التي تقل المهاجرين الأفارقة باتجاه الجنة المفقودة في أوروبا. لا بل إن سواحل ليبيا باتت منطلقا لقوارب الموت التي حملت الكثير من النازحين السوريين أيضا باتجاه أوروبا. وهي اليوم تستقبل برعاية رسمية تركية السفن المحملة بالمرتزقة من السوريين لخدمة الأهداف الأردوغانية، وبعضهم يكمل طريقه على متن قوارب الموت إياها، إلى فردوس أوروبا الموعود.
حال طرابلس الليبية، هو تماما ما أصبحته حال طرابلس اللبنانية، التي لم يزل ضارب الطبلة فيها يردد "طرابلس لن تجوع". لكن عاصمة الشمال اللبناني، باتت عاصمة الجوع والفقر، كما أنها عاصمة اليأس وفقدان الأمل المزدوج، من الدولة ومؤسساتها كما ومن ساستها الذين للمفارقات العجيبة كانوا في صلب كل حكومة أو سلطة أنتجتها ميليشيا المال والسلاح.
إنها عاصمة الجوع والفقر المستشري بسرعات تفوق سرعات تفشي الوباء الكوروني بين أحياء المدينة البائسة وأزقتها الرثة، التي للمناسبة تكتنز الكثير من الآثار والمعالم الحضارية. لكنها اليوم تنافس توأمها الليبية في امتياز فقدان السيولة المصرفية وارتفاع أسعار السلع ويخشى أن تشتد المنافسة على انتزاعها لقب عاصمة قوارب الموت.
إنها "قوارب الموت" التي باتت خبرا أولا في التداول الشعبي، كما باتت الأمل ما قبل الأول لدى فقراء المدينة، الذين أعلنوا في سياق رفضهم إجراءات حكومة وحكم ميشال عون في التعبئة العامة، تفضيلهم الموت جوعا، على الموت بكورونا.
فقراء طرابلس والشمال، باتوا أمام خيار المفاضلة بين كيفية وطريقة موتهم. إنها المفاضلة التي دفعتهم لمحاولة ابتكار طريقة أفضل للموت، بعيدا عن الجوع وكورونا. طريقة ربما تحمل معها لهم أملا ولو ضئيلا بالنجاة.
قوارب الموت آخر ما اهتدى إليها فقراء طرابلس اللبنانية، التواقون لحياة أفضل زينها لهم وهون مخاطرها عليهم مافيات التهريب والاتجار بالبشر. إنها المافيات المستجدة على المهنة الممنوعة، والتي تحاول أن تستنسخ تجربة مافيات قوارب الموت الليبية، مع فارق أن المافيات الليبية مدعومة ومحمية من قبل ميليشيات مسلحة، وهي الحماية التي تفتقدها المافيات اللبنانية أقله حتى اللحظة.
لكن تدشين المافيات اللبنانية خط الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، ليس عبثيا أو منطلقا من فراغ. سيما وأن ما تحمله التطورات السياسية من ارتباك وتخبط المبادرة الفرنسية نتيجة سطوة الدويلة على الدولة وتحكمها المطلق والتفصيلي بها، كما وفقدان الثقة بين القوى السياسية المختلفة، الفاقدة بدورها لثقة غالبية الشعب اللبناني، قد يدفع الأمور نحو قعر المنزلق الذي يعيشه لبنان.
إنه القعر الكامن والمتموضع في الأسباب غير المعلنة للتدخل الماكروني في لبنان. وهي الأسباب التي بالإضافة للنفوذ المتوسطي الفرنكوفوني والثروات الطاقوية المرجحة. تتضمنها بالضرورة موجات الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت التي ستقل فقراء لبنان وليس طرابلس فقط، مضافا إليهم اللاجئون الفلسطينيون، وأيضا النازحون السوريون الذين لطالما استثمر أردوغان تركيا على أوضاعهم الإنسانية وقذف بهم إلى الشواطئ الأوروبية عبر اليونان في خطوة ابتزازية للاتحاد الأوروبي.
وعليه فينبغي النظر إلى قوارب الموت المنطلقة من شواطئ طرابلس اللبنانية، ليس بشكل معزول عن التطورات الدراماتيكية التي يشهدها لبنان الذي بات برمته في ظل التعقيدات التي تلف تشكيل حكومة أوديب الماكرونية، مجرد صندوق بريد لتبادل الرسائل الساخنة بين الولايات المتحدة وإيران.
إنها الرسائل المتبادلة المعبر عنها أميركيا بالعقوبات الهادفة لتشكيل حكومة بعيدا عن حزب الله، والمعبر عنها إيرانيا بالفيتوات على تشكيل حكومة لا تطوّب فيها وزارة المالية للشيعة، كما ويصر حزب الله ومعه نبيه بري على تسمية الوزراء الشيعة.
وبين العقوبات والفيتوات، تضيق فسحة الأمل لدى اللبنانيين، إنها الفسحة التي تلاشت بعد انفجار مرفأ بيروت الهيروشيمي، وما تلاه من حرائق متتالية لإعدام الأدلة، وأيضا تبخر مساعدات إغاثية غير سمك موريتانيا وشاي سريلانكا، ما دفع إلى ارتفاع وتيرة الهجرة الشرعية للقادرين ماديا. في حين لم يجد فقراء طرابلس سوى ابتياع ممتلكاتهم لدفع ثمن تذكرة ركوبهم قوارب الموت البائسة حيث تلتهم الأسماك بعضهم، وتدفع أمواج البحر بعضهم، وتعيد السلطات القبرصية الناجين منهم إلى لبنان في ضوء الاتفاقية الموقعة معه.
ولله الأمر من بعد ومن قبل.