أمس، نشرت الزميلة إسراء خالد على صفحات (المصرى اليوم) جزءًا من وصية الأستاذ محمد حسنين هيكل، تضمنت دُرة، بل أيقونة أدبية بكل معانى الكلمة كتبها الأستاذ لرفيقة المشوار السيدة (هدايت)، حبيبة العمر، وما بعد العمر.
كانت منى الشاذلى، قبل أربعة أيام، قد استضافت السيدة هدايت، التى قرأت فقرات من بداية الخطاب، قبل أن تغلبها دموعها، وتكمل «منى» باقى المتاح تداوله من الخطاب (الوصية).
تطرقت الرسالة بحكم الضرورة إلى تفاصيل شخصية، تعنى فقط الأسرة والأبناء الثلاثة الأساتذة على وأحمد وحسن وزوجاتهم والأحفاد، ومن المنطقى أن يظل باقى الخطاب داخل نطاق الأسرة.
قرار عرض هذا الجزء من الوصية، لا أتصوره سوى أنه أقرب أيضًا إلى وصية، وإن لم يذكره صراحة هيكل، عندما يقول مثلًا وهو يخاطب زوجته: «وأشهد أمامكِ وأمام الكل بأن الدنيا والزمن لم يتركا لى سببًا كى أنظر الآن ورائى فى أسى، رعاكِ الله ورعاهم، وسلمتِ وسلموا، وسعدتِ وسعدوا».
ما الذى يعنيه (وأمام الكل) سوى أن هناك إطلالة أخرى خارج الأسرة، توقعها الأستاذ، بحكم إلمامه بطبيعة الأمور ومجريات الزمن، لم يعتقد مثلًا أن هذا الخطاب سيصبح مشاعًا بمجرد الرحيل، ولكن توقع أن تداوله ممكن مع الزمن، وسبع سنوات بعد رحيله كافية، خاصة أنها تواكب عيد ميلاده المئوى.
قلت لـ«منى» إن الأستاذ كتب الخطاب وفى ذهنه أنه قد يصبح يومًا ما مشاعًا للجميع، هو يثق قطعًا أن العائلة تدرك الخيط الرفيع بين الخاص والعام، حجبوا فقط الجزء الخاص المتعلق بالأمور الشخصية، ما دون ذلك هو بالضبط ما أراد له هيكل المشاركة الجماعية، لم توافق «منى» على هذا التحليل، لديها يقين بأنه خطاب سرى.
لا أتصور سوى أنهم- أقصد السيدة هدايت والأبناء الثلاثة- كانوا موقنين أن تلك هى رغبته، حتى لو لم يعلنها صراحة، وإلا فما الذى دفعهم إلى الموافقة على الإعلان؟.
هل يعيش الكاتب الكبير فى حالة نشاط إبداعى دائم، حتى وهو يكتب وصيته؟.
هيكل يكتب كما يتنفس، (الجورنالجى) كما كان الأستاذ يصف نفسه دائمًا، يدرك أن كل ما هو مكتوب أو مسجل قابل للتداول، لا يتعمد مثلًا كتابة عبارة أدبية، ولكنه يعبر عن مشاعره مباشرة فتصبح قطعة أدبية.
فهو الذى أطلق على هزيمة 67 (نكسة)، وهو أيضًا الذى وصف رحلته إلى العالم الآخر بالجسر، لن تجد بين مفرداته كلمة موت، ولكن عبور الجسر فى رحلة للذهاب إلى ما وراء الحياة، أشواقه للسيدة هدايت طلب منها ألّا تستجيب إليها، أشواق مؤجَّلة، كلما طالت الأشواق زادت أيضًا من خلالها سنوات بقائه على الأرض.
كان الأستاذ هيكل يقرأ حقًّا الزمن، أضافت السيدة هدايت بوجودها سنوات إلى عمر الأستاذ. لست من دراويش الأستاذ، ولكنى منذ أن عرفت القراءة، كنت مثل غيرى نتعاطى كلمته (بصراحة) فى أهرام الجمعة، فهو يملك سحر الكلمة، إنه أستاذ السحرة.
مقالاته الطويلة تشبه أغنيات أم كلثوم لا تستطيع أن تشعر بجمالها وتفردها، إلا بعد أن تصل إلى مرحلة عمرية تقف فيها على أعتاب الشباب، وبعدها تدرك أن ما يبدو للوهلة الأولى إطنابًا هو جزء حميم من الجملة لا يمكن حذفه.
قال لى الكاتب الصحفى أيمن الصياد، وكان مسؤولًا عن مجلة (وجهات نظر)، إن الأستاذ كان يراجع مقاله، المكون من عشر صفحات من القطع الكبير بدقة شديدة قبل النشر، وربما لا تسفر المراجعة النهائية، على مدى ساعتين، سوى عن حذف حرف الواو، مثلًا (ولقد)، تصبح فقط لقد، مراجعة تمتد عدة ساعات والحصيلة حذف (الواو). الكاتب الكبير مؤكد أنه كان يدرك أن الوصية ستُعلن، وأرسل وهو على الشاطئ الآخر إلى السيدة هدايت (شفرة) بأن تنشرها، فى عيد ميلاده المئوى!!.