بقلم - طارق الشناوي
مؤكد أن صُناع فيلم (الملحد) لا أحد منهم لعب دورًا فى خلق تلك الدعاية المجانية من خلال افتعال قرار تأجيل العرض، ولهذا جاءت الحجة المعلنة على لسان المنتج أحمد السبكى أن التأجيل جاء بسبب وضع الرتوش على الشريط، رغم أنه كان جاهزًا للعرض يوم الثلاثاء الماضى.
على الجانب الآخر، آثر كلٌّ من المخرج ماندو العدل والكاتب إبراهيم عيسى فقط الكتابة على صفحاتهما ما يوحى بأن الفيلم لن يُعرض، وأن عدم العرض ليس هو الحل فى هذا الزمن الذى فُتحت فيه كل الأبواب، ولم يفصحا عن المزيد.
ما الذى حدث بالضبط، وهل هناك مزيد من الحذف نال الشريط، وربما مزيد من الإضافة أيضًا؟.
هل البطل الملحد الذى يؤدى دوره أحمد حاتم سنراه يصلى فى نهاية الفيلم ركعتين مستغفرًا الله عن كل ما بدر منه، لا أتصور أن تلك النهاية من الممكن اعتمادها دراميًا مهما كانت الضغوط أو المواءمات.
هل عُرض الفيلم على الأزهر الشريف؟ المفترض أن الرقابة عندما قرأت السيناريو قبل ثلاث سنوات لم تجد أنها بصدد نص درامى دينى يفرض عليها انتظار رأى الأزهر قبل الموافقة على التصوير، الدراما الاجتماعية ليست من شأن الأزهر الشريف، والغريب أن جهاز الرقابة قد أشاد بالسيناريو قبل تصويره، وعلى غير عادته.
هل ما تردد عبر (السوشيال ميديا) من هجوم مسبق ربما أثار حفيظة الأزهر، وطلب أن يدلى بدلوه فى الشريط السينمائى قبل العرض؟.
كلها أمور ضبابية لا يوجد يقين، من البديهى لو أن للأزهر الشريف دورًا فى الموافقة فهو سيعلن ذلك مباشرة، ولن يمنح الضوء الأخضر إلا طبقًا لما يتوافق مع النصوص الصريحة، ولن يتم إجازة الشريط إلا بعد أن تتم غربلة النص تمامًا، وأن يصبح الشريط فى نهاية الأمر معبرًا عن رؤية رجال الدين، وبالتالى سيتم حذف أى حوار جدلى يحتمل أكثر من معنى، بينما الفيلم السينمائى قائم على تلك الجدلية، قضية استتابة البطل ثلاثة أيام، ثم إقامة حد الردة عليه، ربما لعبت دورًا فى إثارة الجدل، المأزق الذى يتجاوز هذا الفيلم هو ترسيخ مبدأ دخول المؤسسة الدينية، الأزهر أو الكنيسة، قبل التصريح بالعمل الفنى، لأننا سنجد فيها مقتلًا لكل أنماط الإبداع، كما أن الجانب الآخر للصورة هو توريط لهذه المؤسسات فى قضايا ستثير بطبيعتها الكثير من التناقضات غير المقصودة.
ولم تكن المرة الأولى، أتذكر فى عام ٢٠١٢ أننى تلقيت اتصالًا تليفونيًا من المخرج مسعد فودة، نقيب السينمائيين، يقول لى إننى وعددًا قليلًا من السينمائيين سنلتقى فى مكتب فضيلة المفتى الأسبق، الشيخ د. على جمعة، لمناقشة فيلم محمد رمضان الجديد (عبده موتة)، تعجبت، ولكنه قال لى إن فضيلة المفتى اختارنى تحديدًا وذهبت فى التوقيت المطلوب، ووجدت أننى أمام مفتٍ عصرى يحمل الآيباد، ويكتب رسالة بالفيلم على الشاشة، وكانت تلك وقتها آخر صيحة فى الآيباد، وشاهدنا الفيلم كاملًا فى مكتب المفتى، وكان بين الحين والآخر يسألنى عن تفصيلة فنية فى الشريط، وفى النهاية كان المقصود هو حذف الأغنية الفولكلورية (يا طاهرة يا أم الحسن والحسين)، والتى ترقص فيها دينا على الإيقاع، وهو ما يحدث وحتى الآن فى كل الموالد، إلا أن هناك تخوفًا ما أن الأغنية تنال من وقار (آل البيت)، وفى النهاية أصدر فضيلة المفتى الأسبق بيانًا تضمن فقط حذف الأغنية، وأمام الحضور، وكان من بينهم نقيب السينمائيين والأساتذة عمر عبدالعزيز، والذى كان وقتها وكيل نقابة السينمائيين، وسامح الصريطى، وكيل نقابة الممثلين، والراحل أشرف عبدالغفور، نقيب الممثلين، قلت للجميع إننا بهذا الاجتماع نرسخ لتحويل المؤسسات الدينية إلى أجهزة رقابية، وسوف نتحمل أمام التاريخ هذا الوزر، وقرأ المفتى البيان، وقال فيه: (بإجماع كل الآراء نحذف الأغنية والرقصة من عبده موتة)، وطلبت من فضيلة المفتى تغيير الصياغة، والتى تضمنت أن البيان تم بموافقة النقاد وكل الحضور، قلت له إن الصحيح هو أن تقول بالأغلبية وليس بالإجماع، وكنت أنا الناقد الوحيد فى تلك اللجنة وأعلن اعتراضى على الحذف، كما أننى أؤكد عدم جواز منح المؤسسة الدينية حق مراقبة أى عمل درامى اجتماعى، وكان الفيلم قد عُرض بالفعل تجاريًا قبلها بعدة أسابيع، وهو من أكثر أفلام رمضان تحقيقًا للإيرادات.
دار الإفتاء تدخلت بعد أن اعتبر البعض الأغنية تنال من وقار (آل البيت)، رغم أن الأغنية واقعيًا لاتزال تُقدم فى كل الموالد الغنائية.
أتمنى ألا يحدث ذلك مجددًا، ونرسخ لتدخل المؤسسات الدينية، من صالح الأزهر والكنيسة ألا يتورطا فى التشابك مع الفنون بكل أنماطها.
فى كل الأحوال سيظل المأزق الأكبر لفيلم (الملحد) عند عرضه هو أن سقف التوقعات ارتفع كثيرًا بسبب كل تلك المجادلات، والكل سينتظر، بينما لا يمكن أن يصل الشريط فى ظل كل المؤثرات الأخيرة إلى سقف التوقع، المؤكد أنه ناله الكثير من الحذف، كما ناله أيضًا بعض الإضافة، والثانية أشد ضراوة من الأولى!!.