«المرهقون» لمحة من اليمن الذي نتمنى أن يعود «سعيدًا بحق وحقيق»

«المرهقون».. لمحة من اليمن الذي نتمنى أن يعود «سعيدًا بحق وحقيق»!

المغرب اليوم -

«المرهقون» لمحة من اليمن الذي نتمنى أن يعود «سعيدًا بحق وحقيق»

طارق الشناوي
بقلم - طارق الشناوي

لدولة اليمن الشقيق مساحة عميقة من الحب والتقدير فى ضمير كل عربى، اليمن هو بلد الخير والجمال والحضارة والإبداع.استطاع المخرج عمرو جمال أن يضع دولة اليمن على خريطة السينما العالمية، بفيلمه الذى يحمل عنوانا موحيا (المرهقون)، ينتقل الشريط بين المهرجانات محملا بالجوائز بداية من (برلين) حتى (وهران).. إنها المعاناة اليومية التى يعيشها أهلنا فى اليمن الذى نصفه فى كل الأدبيات العربية بـ (السعيد)، بينما الواقع أنه يعيش دائما على حافة الخطر.

قبل أن نواصل الحديث السينمائى دعونا كالعادة أولا نقلب صفحات من الماضى المشرف بين مصر والجزائر، عندما يعزف السلام الوطنى الجزائرى، نقف جميعا احتراما وإجلالا، إلا أن المصرى يضيف إلى كل ذلك إحساسا بالفخر، لأن النشيد الوطنى الذى يحمل اسم (قسما)، من تلحين الموسيقار الكبير محمد فوزى، وكلمات الشاعر الجزائرى مفدى زكريا، لم يكن فوزى هو أول من لحن النشيد، سبقه أكثر من ملحن، لكن سيطر لحن فوزى على قلوب الثوار.. وقبل إعلان الاستقلال بسنوات، كان كل الجزائريين يرددون فى كل التظاهرات التى تطالب بالاستقلال النشيد بلحن فوزى.

عندما سألوا الموسيقار الكبير عن أجره بعد اعتماد اللحن عام ١٩٦٣ كنشيد وطنى للدولة، أجابهم: لن تستطيعوا دفع الثمن، لأنه يساوى انتسابى لهذه الثورة العظيمة، فهو لا يقدر بثمن.

وعندما حلت مئوية الموسيقار محمد فوزى عام ٢٠١٨، تواصلت مع محطة إذاعة الأغانى الرسمية فى مصر، وطلبت من المسؤول أن يقدم يوما خاصا عن فوزى، أجابنى: نحن نحتفل فقط بذكرى الرحيل، قلت له: لكنها المئوية التى لا تحدث فى الزمن سوى مرة واحدة؟ أجابنى: اللوائح لا تعترف بالمئوية.

بينما كان للجزائر فى عهد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة رأى آخر، منح اسمه جائزة الدولة التقديرية وأطلق على معهد الموسيقى اسم (محمد فوزى)، وتسلم التكريم فى العاصمة الجزائر حفيد الموسيقار الكبير.. إن هذه واحدة من اللمحات الخاصة التى تجمع بين مصر والجزائر.

ونعود للفيلم، الذى شاهدته لأول مرة فى مهرجان (برلين)، المخرج عمرو جمال قدم قبل نحو عشرة أعوام فيلمه الروائى الأول (عشرة أيام قبل الزفة) أيضا أحداثه داخل اليمن، وفيلمه (المرهقون) البطل الحقيقى هو اليمن.

المخرج مدرك تماما الجانب التوثيقى حتى فى الفيلم الروائى، الذى يحفظ للأجيال القادمة ذاكرة المكان، تكشف بقراءة متأنية للشريط أن اللقطات الطويلة هى قانون هذا الفيلم، دائما هى اختيار المخرج الأول ليظل محتفظا بحضور المكان.. إنه أحد العشاق المتيمين بالمدينة التى ولد فيها (عدن)، ولهذا تجدها دائما فى (الكادر).

قد يبدو للوهلة الأولى العنوان (المرهقون) لو قارنته بالمعاناة التى يعيشها الإنسان اليمنى وتحملها لنا يوميا وسائل الإعلام، تبدو الكلمة كأنها تخذل حقيقة المأساة فى صفة تحفف وطأة الألم، تعودنا أن نرى فى الإعلام فيضا من مشاهد الدماء والدمار، يبدو الإرهاق بالمقارنة بحقيقة ما يجرى على الأرض كأنه لحظة استرخاء، إلا أن مدلول الإرهاق وصل بنا إلى المنتهى، معاناة تجاوزت القدرة على التعايش، الأسرة الزوج والزوجة والأبناء الثلاثة، وينتظرون الرابع، ولهذا يقرر الزوجان التخلص منه رحمة به من العذاب الذى ينتظره، لأنهم يعيشون على حد الكفاف، فكيف يضيفون للأسرة عبئا جديدا، البعض بوجهة نظر متعجلة يحاكم الفيلم بمنظور دينى، الإجهاض محرم فى الشرع ومجرّم فى القانون، لم يكن هذا الخط الدرامى هو عمق الفيلم، لكن تداعيات العلاقات داخل الأسرة التى لا تجد سوى الإجهاض حلا.

المخرج الذى شارك أيضا فى كتابة السيناريو مع مازن رفعت، يقدم دائمًا سطحًا ناعمًا للأحداث، أسرة بسيطة تريد أن تتمسك بالحياة، أقصد بأقل القليل من أسلحة البقاء، بينما كل ما يحيط بها يدفعها إلى الانسحاب التدريجى من الحياة.

استطاع المبدع اليمنى أن يعبر عن نفسه من ثقب إبرة، وهو ما فعله المخرج عمرو جمال الذى تمكن من الحصول على تمويل من أكثر من جهة مثل مهرجانى (البحر الأحمر) فى جدة، وأيضا (مالمو) فى السويد، وعدد آخر من الهيئات، وأيضا الأصدقاء المتحمسون للتجربة.

نتوقف أمام الإرادة التى يمتلكها المخرج اليمنى، الفيلم يمنى القضية واللهجة، إلا أنه أيضا استطاع أن يحصل على تمويل من السودان، بمساهمة من المخرج السودانى أمجد أبوالعلا صاحب فيلم (ستموت فى العشرين).

الفيلم يعنيه فقط البشر فى صراعهم من أجل الحياة، وعين المخرج تلتقط كل هذا الجمال والسحر فى المعمار اليمنى، وتحديدا مدينة (عدن)، حيث تجرى الأحداث، السينما حتى لو لم تقصد ذلك بالضرورة ومع سبق الإصرار فهى تحافظ على الحياة وتوثقها. اللقطات الطويلة التى تأخذ مساحات مكانية على (الكادر) تتيح للمخرج، رغم صعوبتها، عمقا من الإضافة تمنح أيضا للمشاهد قدرا لا ينكر من تعدد زوايا الرؤية، فأنت تشاهد وتعيش وتتذوق، بل تشم أيضا رائحة المكان، تتعاطف مع الأبطال بعين راصدة وعقل يقظ.

الإنسان اليمنى لا يريد سوى ضمان المقومات الأساسية للحياة، هذه تكفيه، والمخرج حدد من البداية الهدف، لن يدخل فى جدل فكرى وصراعات سياسية، قضيته أبعد من كل ذلك، ولأن أيضا السياسة بكل تفاصيلها تعبر عن لحظة آنية، قد تتغير المعادلات على أرض الواقع فى أى توقيت آخر، ليصبح ما نراه على الشاشة خارج الزمن، ويبقى الإنسان. وهذا هو تحديدا رهان المخرج على الإنسان.

عمرو بذكاء يضع عينيه فقط على الإنسان، لم يشارك، أو بالأحرى، لم يبدد طاقته فى معركة يجد نفسه فى النهاية مثخنًا بالجراح، التداخلات السياسية معقدة جدا، والأعمال الدرامية التى دخلت كطرف فى تلك المعارك الجدلية لم تصمد طويلا، وصار الخط السياسى بالنسبة لها مثل الرمال الناعمة، التى تجذب من يقف عليها ليجد نفسه قد غرق تحتها.

«المعاناة اليومية» هذا هو الهدف وهو بالضبط ما قدمه عمرو جمال، حتى مشاكسات الأمن وقوات الجيش للمواطن نراها جزءًا من الحياة، وتعمد ألا يضع خطًا فاصلًا بينها وبين ممارسة طقوس الحياة، فهو يمسك بذكاء بالخط الاجتماعى: زوج وزوجة وثلاثة أطفال، ينتظرون الرابع الذى يعنى زيادة فى المعاناة، إلا أن كل ذلك لا يشكل سوى إطار شكلى فقط لما يريده المخرج بهذا الشريط الذى ينضح صدقًا.

ليظل هذا الشريط نابضًا بالحياة التى نسعى لأن يعيشها قريبا أهلنا فى اليمن، الفيلم كبناء، برغم أنه يتبنى تقديم المعاناة، إلا أنه يزرع فى نفس اللحظة إحساس المقاومة داخل كل منا لمناصرة الحياة.

نجد أنفسنا جميعا مع نهاية العرض نتمنى أن نرى فى القريب العاجل (اليمن السعيد) سعيدا بحق وحقيق!!.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«المرهقون» لمحة من اليمن الذي نتمنى أن يعود «سعيدًا بحق وحقيق» «المرهقون» لمحة من اليمن الذي نتمنى أن يعود «سعيدًا بحق وحقيق»



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 11:19 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
المغرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:20 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib