هل نقول كل الحقيقة أم ما نعتقد أنه الحقيقة؟.. لا هذه ولا تلك، هناك نسبة ما من التبرير لكل موقف أقدمنا عليه أو تورطنا فيه، نضيف بعض التفاصيل إلى التفاصيل فنطلق عليها حقيقة، تمنحنا درعا واقية من هجوم الآخرين، بينما توصيفها هو التبرير.. كل من كتب سيرته الذاتية أو جزءا منها أضاف.
ولو حتى لا شعوريًّا (رشة) من مسحوق التبرير لتحلية البضاعة.. يتساوى فى ذلك طه حسين والعقاد والسادات وهتلر وغاندى وعبدالناصر مع أم كلثوم وعبدالوهاب ونجيب الريحانى وإسماعيل ياسين ومارلين مونرو، الاختلاف فقط فى الدرجة، وفى القدرة على ضبط (رشة) التبرير.
السياسى والكاتب الكبير د. مصطفى الفقى، الذى أتشرف أننى على أطراف دائرة أصدقائه، ينشر قبل نحو شهر سلسلة أسبوعية رائعة على صفحات (المصرى اليوم) تحت عنوان (اعترافات ومراجعات)، يعترف فيها بأنه لم يقل فى الماضى كل الحقيقة، وأن البعض يعتبره من هؤلاء الذين يخشون غضب السلطة.
وحان الوقت لكى يبوح بكل شىء.. طبعًا عدد من شهود العيان بالضرورة ليسوا بيننا الآن، ولكن يظل أن هذا الرجل يملك الكثير بكل ما لديه من مخزون الأسرار، لاقترابه من دائرة الحكم، بل من رأس السلطة مباشرة 8 سنوات فى موقع سكرتير الرئيس للمعلومات فى زمن حسنى مبارك، وهو ما يمنح شهادته قطعًا قوة استثنائية.
هل كان يخشى أن يقول كل شىء فى زمن ما والآن زال الحرج، أم أنه يخشى من الزمن القادم عندما يبدأ الآخرون فى تقديم رواياتهم وهى تعتمد فى جزء منها على ذاكرتهم وفى نفس الوقت علاقتهم المباشرة به، ربما تفرقت بينهم السبل يوما ما، فى هذه الحالة تصبح الفرصة مهيأة للنيل منه.
ولهذا كان لسان حاله يقول (بيدى لا بيد عمرو)؟!، وبمناسبة عمرو، يعتقد د. مصطفى أن الكثير من المناصب التى كان يستحقها لعب الدبلوماسى الكبير عمرو موسى دورا كبيرا فى اقصائه عنها، أو كحد أدنى لم يقف داعمًا له فى الحصول عليها.
البعض يفضل أن تنشر الحقيقة بعد رحيله، تلك كانت قناعة نور الشريف، الذى قال لى إنه كتب مذكراته وتركها لابنتيه مى وسارة، وعندما سألت بوسى قبل بضع سنوات عن حقيقة المذكرات، قالت لى إنها لم تعثر على شىء.
الموسيقار محمد عبدالوهاب سجل مذكراته مع الشاعر الكبير فاروق جويدة وأوصى أيضا بطبعها بعد رحيله، والتى ذكر فيها أنه اضطر إلى تسجيل نحو أربعين أغنية وقصيدة بصوته فى منزل الفريق شمس بدران وزير الحربية الأسبق (الدفاع الآن)، إحدى أقوى الشخصيات فى زمن عبدالناصر، وكان الرجل الثانى بعد المشير عبدالحكيم عامر.
ملحوظة: رحل شمس بدران قبل نحو ثلاثة أعوام، ولا أحد يدرى مصير هذه التسجيلات.
أم كلثوم سجلت مذكراتها مرتين؛ الأولى مع الكاتب سعد الدين وهبة أثناء إعداد فيلم (ثومة) إخراج يوسف شاهين، والثانية مع المذيع وجدى الحكيم.. وفى المرتين رفضت الحديث عن الجانب العاطفى فى حياتها.. وتدخل فى المرة الأولى وزير الثقافة الأسبق د. ثروت عكاشة لإقناعها، لأن الفيلم كانت ستنتجه مؤسسة السينما، رفضت أم كلثوم الاقتراب من تلك المنطقة الشائكة، وقالت: (بعد رحيلى أنتم أحرار).
قرأت مؤخرًا أن شمس البارودى سوف تسجل حياتها بإشراف ابنها الفنان الشاب عمر حسن يوسف، حتى تضمن ألا يتم تزوير الوقائع، شمس اعتزلت منتصف الثمانينيات، وطالبت وقتها بحرق كل أفلامها!.
ونكرر السؤال: هل نحن فعلا نذكر الحقيقة أم ما تبقى منها فى الذاكرة؟.. سواء د. مصطفى الفقى أو الفنانة شمس البارودى، سنظل نروى الحقيقة بعد أن نضع عليها (رشة) مقننة من مسحوق التبرير!.